[موقف أيوب عليه السلام في الصبر على البلاء والرضا بالقضاء]
وأولى الناس بالذكر في هذا الباب هو أيوب عليه السلام؛ لأنه الذي يضرب به المثل في الصبر.
قال ابن كثير رحمه الله: قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم: كان أيوب رجلاً كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه من الأنعام والعبيد والمواشي والأراضي المتسعة من أرض حوران، وحكى ابن عساكر أنها كانت كلها له، وكان له أولاد وأهلون كثير، فسلب منه ذلك جميعه، وابتلي في جسده بأنواع من البلاء، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر الله عز وجل بهما، وهو في ذلك كله صابر محتسب ذاكر لله عز وجل في ليلة ونهاره وصبحه ومسائه.
وطال مرضه حتى عافه الجليس واستوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده وألقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت ترعى له حقه وتعرف قديم إحسانه إليها، وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته، وتقوم بمصلحته، وضعف حالها، وقل مالها، حتى كانت تخدم الناس بالأجر وتطعمه، وتقوم بحاجته رضي الله عنها وأرضاها، وهي صابرة معه على ما حل بهما من فراق المال والولد، وما يختص بها من المصيبة بالزوج وضيق ذات اليد، وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، وقال: يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه).
ولم يزد هذا أيوب عليه السلام إلا صبراً واحتساباً، وحمداً وشكراً، حتى أن المثل ليضرب بصبره عليه السلام.
ويضرب أيضاً بما حصل له من أنواع البلاء، قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:٤١ - ٤٤].
قال السعدي رحمه الله: ولما تطاول به المرض العظيم ونسيه الصاحب والحميم نادى ربه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣]، فقيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:٤٢]، فركض، فنبعت بركضته عين ماء بارد، فقيل له: اشرب منها واغتسل، ففعل ذلك فذهب ما في ظاهره وباطنه من البلاء.
وقال الحافظ: أصح ما ورد في قصته ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن جريج وصححه ابن حبان والحاكم من طريق نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس: أن أيوب ابتلي فلبث في بلائه ثلاث عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه فكانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر: لقد أذنب أيوب ذنباً عظيماً وإلا لكشف عنه هذا البلاء، فذكره الآخر لأيوب، فحزن ودعا الله حينئذ، فخرج لحاجته، وأمسكت امرأته بيده، فلما فرغ أبطأت عليه، فأوحى الله إليه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:٤٢]، فضرب برجله الأرض فنبعت عين فاغتسل منها، فرجع صحيحاً، فجاءت امرأته فلم تعرفه، فسألته عن أيوب فقال: إني أنا هو، وكان له أندران: أحدهما للقمح، والآخر للشعير، فبعث الله سحابة فأفرغت في أندر القمح الذهب حتى فاض، وفي أندر الشعير الفضة حتى فاض.
وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه - يعني: يجمع في ثوبه من هذا الجراد الذي هو من ذهب- فناداه ربه: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب! ولكن لا غنى لي عن بركتك).
ولا بأس أن يطلب الإنسان المال الحلال حتى ولو كان عنده مال كثير، فأيوب عليه السلام كان عنده ذهب وفضة، ومع ذلك كان يجمع جراد الذهب فقال الله عز وجل له: (يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب! ولكن لا غنى لي عن بركتك).
ففي قصة أيوب عليه والسلام عبرة للمعتبرين، فإنه صبر هذا الصبر الجميل على ذهاب ماله وأقاربه وصحته، وثبت على حبه لله عز وجل وصبره على قضائه وقدره، واقتصاره على الشكوى إلى الله عز وجل، وهي لا تنافي الصبر؛ لأن الله عز وجل يقول: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:٤٤]، مع أنه شكى إلى الله وقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣].
وزاده عز وجل من فضله، وهذه عاقبة المواقف الإيمانية دائماً رفعة الدنيا والآخرة، فكما كان يوسف عليه السلام مثلاً ل