للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكمة مؤمن آل فرعون في دعوته قومه إلى الله]

وقال الزمخشري -ما ملخصه-: ((أَنْ يَقُولَ)): لأن يقول، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت شديد؛ كأنه يقول: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة، وما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها، وهي قوله: ربي الله، كيف يقتل إنسان يقول: ربي الله، مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله بينة واحدة ولكن بينات عدة من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربكم؛ لأنه جاء بالبينات -يعني: ليست بينة واحدة، بل بينات ومعجزات- كان يلقي عصاه فتنقلب حية كبيرة، ويدخل يده في جيبه، ثم يخرجها فتصير بيضاء تشع نوراً، فيعيدها إلى جيبه فتعود سيرتها الأولى، فأتى ببينات ومعجزات كثيرة تدل على أنه صادق، فكيف تقتلونه وهو يقول: ربي الله، وقد أتى بالبينات؟ وقوله: (بالبينات)، يريد البينات العظيمة التي عهدتموها وشهدتموها، ثم أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم، فقال: لا يخلو من أن يكون كاذباً أو صادقاً، يعني: هذا الذي يدعي أنه نبي، إما أن يكون صادقاً، وإما أن يكون كاذباً، فعلى كل حال لا يجوز قتله، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:٢٨]، أي: إذا كان يكذب على الله فالله تعالى ينتقم منه؛ لأنه يدعي أن الله أرسله، فالله تعالى ينتقم منه (فعليه كذبه) أي: يعود عليه كذبه ولا يتخطاه ضرره إلينا.

{وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:٢٨]: إن كان صادقاً في أن الله عز وجل أرسله يصبكم بعض الذي يعدكم، وهو في الواقع يصيبهم جميع ما يعدهم به، ولكن هذا من باب المداراة، وحتى لا يظهر أنه متحامل عليهم، فقال: (يصبكم بعض الذي يعدكم به)، أي: إن تعرضتم له.

فإن قيل: لم قال: الذي يعدكم، وهو نبي صادق لابد أن يصيبهم كل ما يعدهم به لا بعضه؟

الجواب

لأنه في مقاولة خصوم موسى ومناكريه إلى أن يحايلهم ويداريهم، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول، ويأتيهم من جهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وتقديم الكاذب على الصادق أيضاً من هذا القبيل، قال: ((وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)).

قال القاسمي: قال الناصر: ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا: قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:٢٦ - ٢٧] حتى لا يظهر أنه متحيز ليوسف، وهم لا شك من بداية الأمر يرون أن القميص قد من دبر.

يقول: إن كان قد من قبل فصدقت أنه هو الذي يريدها، وهي التي تمتنع منه، فقد قميصه من قبل، ولكن إذا كان هو يفر منها وهي تتبعه فتمسك قميصه من الخلف، أي: من دبر، فهذا أيضاً حتى يقبل قوله، وحتى لا يظهر أنه متحامل على امرأة العزيز.

يقول: فقدم الشاهد أمارة صدقها على أمارة صدق يوسف، وإن كان الصادق هو يوسف، وهذا لا يضره؛ لأنه هو الصادق في الواقع؛ لرفع التهمة وإبعاد الظلم وإدلالاً بأن الحق معه، ولا يضره التأخير لهذه الفائدة.

وقريب من هذا التصرف لإبعاد التهمة ما في قصة يوسف مع أخيه، إذ بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، فلو بدأ بوعاء أخيه واستخرج منه صواع الملك لاتهم بأنه وضعه في وعاء أخيه، ولكن بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، كأنه لا يقصد أخاه، ولا يريد أن يحتجز أخاه، فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه.

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:٢٨]: قال الشوكاني: وهو احتجاج آخر من وجهين: أحدهما: أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات وأيده بالمعجزات؛ لأن النبي إذا كان صادقاً فهو أصلح الصالحين، فيظهر عليه من العلامات ومن الدلائل من صدق الكلام ومن العفاف ما يدل على صدقه.

وذلك كما قال حسان في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر يعني: الناظر إلى وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم يعتقد بأنه نبي صادق، فإذا كان الرجل محافظاً على الصلاة ويجتهد في الطاعة والعبادة تظهر عليه أنوار الطاعة والعبادة والإقبال على الله عز وجل، فكيف بالرسل الذين هم أفضل الأولياء.

فليست المعجزات وحدها هي دلائل النبوات، بل الصدق والأمانة وحسن السيرة وشرف النسب وغير ذلك مما يدل على الصدق.

ثانيها: أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:٢٨] يعني: لا تشغلوا أنفسكم به فالله تعالى لا يهدي من هو مسرف كذاب، فلا حاجة لكم إلى قتله.

والمسرف: المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب: المفتري.