للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إعجاب قوم قارون بزينة قارون وإهلاك الله له]

ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك، ولا بنصيحة قومه، فقال سبحانه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:٧٩ - ٨٠].

قال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين: أنه خرج في تجمل عظيم من ملابس ومراكب وخدم وحشم، فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله، وغبطوه لما عنده، فلما سمع مقالتهم العلماء وذوو الفهم الصحيح من الزهاد قالوا لهم: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:٨٠] أي: ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى.

وهذه الهمة إلى الدار الآخرة عند النظر إلى زهرة الدنيا لا يلقاها إلا من استنار قلبه، وثبت فؤاده؛ لذلك قال تعالى: {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:٨٠] يعني: لا يعطى هذا العلم وهذا الفهم، وهذا النظر الثاقب والمعرفة بحقارة الدنيا وقيمة الآخرة إلا الصابرون الذين هداهم الله عز وجل ووفقهم، وما أحسن ما قال بعض السلف: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.

قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:٨١].

قال الشوكاني: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:٨١] يقال: خسف المكان يخسف خسوفاً: ذهب في الأرض، وخسف به الأرض حتفاً أي: غاب فيها، والمعنى: أن الله سبحانه غيبه وداره وماله في الأرض، {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [القصص:٨١] أي: ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه، وما كان هو في نفسه من المنتصرين، أي: من الممتنعين مما نزل به من الخسف.

قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:٨٢] قال الزمخشري: قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي مضى، وإنما يراد به: الماضي، فقوله: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} [القصص:٨٢] أي: في الوقت الماضي وهذه الجملة تحتمل الاستعارة، يعني: كأنه قال: في الماضي القريب كانوا يقولون: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:٧٩] فعند ذلك حمدوا الله عز وجل، وعرفوا أن الدنيا يبسطها الله عز وجل لمن يشاء من عباده، ولولا أن الله رفق بهم لخسف بهم؛ لأنهم تمنوا ما هو فيه.

وقوله: {مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} [القصص:٨٢] أي: منزلته في الدنيا، قوله: {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ} [القصص:٨٢] (وي) مفصولة عن كأن، وهي كلمة تشير إلى الخطأ والتندم، والمعنى: أن القوم قد تنبهوا لخطئهم في تمنيهم وقولهم: {لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:٧٩] فندموا على هذا التمني، ثم قالوا: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:٨٢] أي: ما أشبه الحال بحال الكافرين الذين لا ينالون الفلاح وهو مذهب الخليل وسيبويه فقال كقول القائل: ويكأن من يكن له نشب يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضر وحكى الفراء أن أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت.

وعند الكوفيين: ويك بمعنى: ويلك، والمعنى: ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون، فعلى قولهم تصير الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وي، كقول عنترة بن شداد: ويك عنتر أقدم وقال القاسمي: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [القصص:٨٢] أي: من شقي وسعيد، ويقدر أي: يقبض، فلا دلالة في البسط على السعادة، ولا في القبض على الشقاوة، بل يفعل سبحانه كلاً من البسط والقدر بمحض مشيئته، لا لكرامة تقتضي البسط، ولا لهوان يقتضي القبض، فالمال لا يدل على الرضا ولا على غضب.

فقد يكون الإنسان تقياً وعنده مال كثير، وقد يكون تقياً فقيراً جداً، وقد يكون فاجراً وليس عنده مال، وقد يكون فاجراً وعنده مال كثير، فالله عز وجل يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولا علاقة في ذل