للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تذكير مؤمن آل فرعون قومه بهلاك الأمم السابقة وبيوم القيامة]

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:٣٠].

قال الرازي -ما ملخصه-: واعلم أنه تعالى حكى عن هذا المؤمن أنواعاً من الكلمات ذكرها لفرعون: فالأول: قوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:٣٠]، والتقدير: مثل أيام الأحزاب، كما قلنا: أنه يأتي المفرد ويراد به الجمع كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:٥٤]، فهي في الواقع أنهار وليس نهراً واحداً.

وقوله عز وجل: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:٣١]، يقصد الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء.

فالمفرد يأتي في لغة العرب ويراد به الجمع، فقوله هنا: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:٣٠] أي: مثل أيام الأحزاب، أو كل قوم لهم يوم، مثل أيام الأحزاب، قيل: إنه لما أضاف اليوم إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، فحينئذ ظهر أن كل حزب كان لهم يوم معين في البلاء، فاقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس.

ثم فسر قوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:٣٠] بقوله: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} [غافر:٣١] ودأب هؤلاء: دأبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي، فيكون ذلك دأباً دائماً لا يفترون عنه، ولابد من حذف المضاف، يريد مثل جزاء دأبهم.

والحاصل: أنه خوفهم بهلاك معجل في الدنيا، ثم خوفهم أيضاً بهلاك الآخرة، وهو قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:٣٣]، والمقصود منه: التنبيه على عذاب الآخرة.

النوع الثاني من كلمات ذلك المؤمن: قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:٣١] يعني: أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلاً؛ لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء، وتلك العلة قائمة هنا فوجب حصول الحكم هاهنا، يعني: هؤلاء ما أهلكوا ظلماً، بل بما كسبت أيديهم، ولابد أنهم اقترفوا آثاماً أهلكهم الله عز وجل بها، وأنتم الآن تقترفون هذه الآثام فتعرضون أنفسكم أيضاً للهلاك.

النوع الثالث من كلمات هذا المؤمن: قوله: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:٣٢].

فالتناد: تفاعل من النداء، يقال: تنادى القوم أي: نادى بعضهم بعضاً، وأجمع المفسرون على أن يوم التناد يوم القيامة، فمن أسماء يوم القيامة: يوم الزلزلة، الحاقة، الواقعة، القارعة، يوم الجمع، يوم التناد؛ لكثرة صفاته وكثرة أهواله، وهو يوم التناد لكثرة النداء فيه، وفي سبب تسميته بهذا الاسم وجوه: الأول: أن أهل النار ينادون أهل الجنة، وأهل الجنة ينادون أهل النار، كما في سورة الأعراف.

الثاني: قال الزجاج: لا يبعد أن يكون السبب فيه قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:٧١].

الثالث: أنه ينادي بعض الظالمين بعضاً بالويل والثبور، فيقولون: يا ويلنا.

الرابع: ينادون إلى المحشر، أي: يدعون.

الخامس: ينادي المؤمن: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:١٩] من فرحه بكتابه، والكافر يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:٢٥].

السادس: ينادى باللعنة على الظالمين.

السابع: يجاء بالموت على صورة كبش أملح، ثم يذبح، وينادى: يا أهل الجنة! لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، وأهل النار حزناً على حزنهم، فكل هذا مأخوذ من النداء.

الثامن: قال أبو علي الفارسي: التنادي: مشتق من التناد من قولهم: ند فلان إذا هرب، فهذا تفسير آخر، وهو قراءة ابن عباس، فقال: يندون كما تند الإبل، ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس:٣٤] فالتناد هنا: عندما يند الناس أو يفرون.

ويفسره كذلك قوله تعالى بعد هذه الآية: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر:٣٣]؛ لأنهم إذا سمعوا زفير الناس يندون هاربين، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفاً، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه.

المسألة الثانية: انتصب قوله: يوم التناد وجهين: أحدهما: الظرف للخوف، كأنه خاف عليهم من ذلك اليوم لما يلحقهم من العذاب إن لم يؤمنوا، فيوم التناد يوم مفتوح لأنه ظرف.

والآخر: أن يكون التقدير: إني أخاف عليكم عذاب يوم التناد، وإذا كان كذلك كان انتصاب يوم التناد مفعولاً به.

ثم قال: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر:٣٣] هو بدل من قوله: (يوم التناد)، عن قتادة: منصرفين عن موقف الحساب إلى