للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقسام الناس في التوبة]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

الناس في التوبة على أقسام: فمن الناس من لا يوفق لتوبة، فيحيا حياته كلها لا يوفق للحظة صدق واحدة مع الله عز وجل ومع نفسه فيتذكر ذنوبه، ويتوب إلى الله عز وجل، ويرجع إلى الله عز وجل ويستقيم على طاعة الله عز وجل.

فهو لا يعرف لماذا خلق؟! وما هي الوظيفة التي أنيطت به؟ ولا يعرف إلا المعاصي والشهوات، فهو يأكل من أجل أن يعيش، ويعيش من أجل أن يأكل، لا هدف له في حياته، لا يعبد الله عز وجل بأمره ونهيه، ولا يسعى لإعزاز دين الله عز وجل ورفع راية الله عز وجل، فيحيا في الدنيا حياة البهائم، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:١٢].

لعله ما دخل في حياته كلها بيت الله عز وجل، بل لعله لا يدخل إلا مرة واحدة، ولا يدخل على قدميه ولكن محمولاً على خشبته، ولا يدخل من أجل أن يصلي، بل من أجل أن يصلى عليه، فهذا الدخول لا ينفعه؛ لأنه ما دخل بإرادته، كما إذا وجهوه بعد موته إلى القبلة لا ينفعه كذلك؛ لأنه كان في حياته إلى غير القبلة، كان لا يتوجه للقبلة في حياته، فكيف ينفعه إذا مات أن يوجه إلى القبلة وهو بغير إرادة؟! وهو ما توجه إلى قبلة الله عز وجل بإرادته، فكيف ينفعه أن يوجه إلى القبلة بعد موته؟! فهؤلاء لا يحيون الحياة التي يحبها الله عز وجل، والتي يريدها الله عز وجل لهم، بل يعيشون حياة البهائم، لم يكونوا في الدنيا جمادات لا تحس، فكذلك في الآخرة، قال عز وجل: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:١٧]، يأتيه الهلاك والعطب والبوار والدمار من كل مكان وما هو بميت.

وأين يذهب وهو في دار القرار؟ ولمن يترك هذا العذاب الذي قد تسبب فيه؟ فالذين يصدون عن سبيل الله عز وجل، والذين يحاربون أولياء الله عز وجل، والذين يشيعون الفواحش في بلاد المسلمين، والذين يعرضون عن طاعة رب العالمين يقولون يوم القيامة كما أخبر الله عز وجل عنهم: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:٦٦]، يندمون حين لا ينفع الندم، ويطلبون الاستدراك في وقت العدم: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:٣٧].

فالعبد يندم حين لا تنفع الندامة، ويطلب الرجوع إلى الدنيا وقد فنيت الدنيا، ولم يبق إلا ما بعد يوم القيامة، فينبغي للعاقل أن ينتبه لنفسه، وأن يفكر في أحواله، وأن يقف مع نفسه لحظة صدق هل هو مؤمن بالله عز وجل مؤمن بالآخرة؟ لحظة واحدة قد تكون سبباً للسعادة الأبدية في جنة الله عز وجل، لحظة صدق واحدة يجلس فيها العبد مع نفسه ويتفكر في ذنوبه السالفة وجناياته الماضية، فيصلح الماضي كله بتوبة يتوب فيها إلى الله عز وجل، ويصلح الحاضر بعمل صالح ويصلح مستقبلة بالعزيمة على الاستمرار على طاعة الله عز وجل.

ومن لم يعتبر بغيره صار عبرة لغيره، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه وصار عبرة لغيره.

هذه حالة الأشقياء، وهي حالة أكثر الخلق، فأكثر الخلق معرضون عن طاعة الله، معرضون عن شريعة الله عز وجل، مستمرون على معصية الله عز وجل، يقولون سوف نتوب، وهذا التسويف يطول بهم، فلا يفيقون عباد الله إلا وهم في عسكر الموتى، نادمين بين الخاسرين، فينبغي على العبد أن يستدرك ما فات، وأن يرجع إلى رب الأرض والسماوات.

كثيراً ما يموت أهل المعاصي وهم متلبسون بمعاصيهم، فيكون ذلك خزياً لهم في الدنيا مع خزي الآخرة وعذاب الآخرة، وكثيراً ما يحدث ذلك لشارب الخمر.

أتأمن أيها السكران جهلاً بأن تفجأك في السكر المنيه فتضحي عبرة للناس طراً وتلقى الله من شر البريه هذه حالة الأشقياء عباد الله! أن يستمر العبد على المعاصي والذنوب حتى يرجع إلى الله عز وجل ولا يكون له حيلة ولا وسيلة، إن الذي يخسر شيئاً من ماله يتحسر عليه، والذي يخسر بعض أولاده يحزن على ذلك ويتحسر، والذي يفقد بعض أعضائه يتحسر على ذلك، فيكف إذا خسر العبد نفسه؟ وكيف إذا كان نصيبه النار؟ خسروا أنفسهم فصاروا في النار خالدين فيها، لا ينفعهم جاههم، ولا ينفعهم مالهم ولا تنفعهم عشيرتهم، ولا ينفعهم شيء من الدنيا، ولو ملك ملء الأرض ذهباً وأرد أن يفدي نفسه بذلك ما قبل منه، لا يقبل منه ملء الأرض ذهباً ولو أفتدى به، وكان يسهل عليه في الدنيا أن يسلك طريق الله عز وجل، وأن يستقيم على شرع الله