[أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه بإحسان في الدنيا وزهدهم فيها]
الناظر في حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الكرام يعلم قيمة الزهد في الدنيا ويعلم حقارتها، فقد كان من حاله صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه ما يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة.
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار) أي: لا يطبخ في بيت من بيوته الشهرين الكاملين.
قال عروة: فما كان يعيشكم يا خالة؟ قالت: الأسودان: التمر، والماء، أي: أنهم كانوا يأكلون التمر والماء أكثر الأيام، إلا أنهم كانوا يشربون اللبن أحياناًً، تقول عائشة: (إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت عندهم منايح -جمع منيحة وهي: الناقة ذات اللبن- فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه).
وذكر عمر بن الخطاب ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه)، والدقل: هو رديء التمر.
وتقول عائشة رضي الله عنها: (ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض صلى الله عليه وسلم)، ليس من خبز القمح، ولكن من خبز الشعير! وأخرجت كساء غليظاً، وإزاراً ملبداً -أي: كثير الرقع- فقالت: (قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذين) بأبي هو وأمي وهو سيد ولد آدم، وسيد الأولين والآخرين.
وقالت: (كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف).
(دخل عليه عمر رضي الله عنه، فبكى لحاله صلى الله عليه وسلم، ينام على حصير مرمل قد أثر الحصير في جنبه -أي: جعل في جنبه خيوطاً- فبكى عمر رضي الله عنه فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب بكائه، فقال: ذكرت كسرى وقيصر وهم ينامون على الحرير والديباج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا).
فلو كانت الدنيا لها قيمة عند الله عز وجل ما حرم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرج الصحابة الكرام على هذا الزهد فكانوا أزهد الناس؛ فكان عمر يخطب الناس وقد لبد بين كتفيه برقاع ثلاث في مكان واحد.
ولما ذهب عمر رضي الله عنه إلى الشام من أجل أن يستلم مفاتيح بيت المقدس قال: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح.
قالوا: يأتيك الآن، فأتى أبو عبيدة، فقبل يد عمر واعتنقه عمر رضي الله عنه، وذهب معه إلى داره، فنظر عمر في داره -وهو أمير الجيوش وأمير الشام- فما وجد في بيته إلا سيفه وترسه ورمحه، فقال: لماذا لم تتخذ ما اتخذ أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين! هذا يبلغنا المقيل.
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (كان أناس يخرون من قامتهم في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفاقة -أي: من شدة الجوع والفقر، أو من الخصاصة- فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب إليهم، وقال: لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة).
يقول محمد بن سيرين: دخلنا على أبي هريرة رضي الله عنه وعليه ثوبان ممشقان من كتان فمخط في أحدهما، ثم قال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان! لقد رأيتني أصرع بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجيء الجائي فيجلس على صدري، يحسب أن بي الجنون -أي: الصرع- وما بي إلا الجوع.
فكان من حال الصحابة -وهم أفضل الناس بعد الأنبياء والرسل- من التقلل في الدنيا، ومن الفقر والحاجة، ومن الرغبة في الآخرة؛ ما يدل على شرفهم وفضلهم وعظيم مكانتهم.
قال عبد الله بن مسعود للتابعين: لأنتم أكثر عملاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا خيراً منكم، كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة.
فهل ترون الزهد عباد الله! شيئاً عارضاً يتخلق به العبد، أو أن الزهد يكون سبباً لخيرات الدنيا والآخرة؟ فالعبد إذا زهد في الدنيا زهد في أعراضها وشهواتها وأموالها، وسعى للآخرة سعيها.
والعبد إذا زهد في الدنيا عباد الله! بذل نفسه طلباً للآخرة، وهكذا كانت آيات الصدق عند الصحابة رضي الله عنهم لم تكن الدنيا عندهم بشيء.
وقال أبو الدرداء: لئن حلفتم لي على رجل أنه أزهدكم لأحلفن لكم أنه خيركم.
فالعبد إذا زهد في الدنيا كان سعيه للآخرة، وكان عمله لها، فلا يلتفت إلى الدنيا، ولا تشغل باله ولا جوارحه.
اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم اقسم لن