ومن تلك المواقف: موقف الخنساء رضي الله عنها وأبنائها الأربعة: حضرت الخنساء رضي الله عنها حرب القادسية، وكان معها بنوها أربعة رجال، فوعظتهم، وحرضتهم على القتال وعدم الفرار، وقالت: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لأب واحد، وأم واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت أخوالكم، فلما أصبحوا باشروا القتال، حتى قتلوا، فبلغها الخبر فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
وهذا الدعاء بعض العلماء يقول: فيه نظر؛ لأن بعضهم يقول: مستقر الرحمة هي ذات الله عز وجل، وعلى كل حال، الأولى أن يقال: في فردوسه الأعلى.
قال: وكان عمر بن الخطاب يعطي الخنساء أرزاق أولادها الأربعة حتى قبض.
وقد أجمع أهل العلم بالشعر أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، وقد كانت تقول في أول أمرها البيتين والثلاثة، حتى قتل شقيقها معاوية بن عمرو وقتل أخوها لأبيها صخر وكان أحبهما إليها؛ لأنه كان حليماً جواداً محبوباً في العشيرة.
ومما قالت فيه: ألا يا صخر! لا أنساك حتى أفارق مهجتي ويشق رمسي يذكرني طلوع الشمس صخراً وأبكيه لكل غروب شمس ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي فانظر -رحمك الله- كيف جزعت على أخيها صخر وأنشدت ما تتقطع له القلوب، وعندما تشرفت بالإسلام حضت أبناءها على الجهاد، ورغبتهم في الاستشهاد، فلما قتلوا قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم.
فهذا يبين قيمة الإيمان، حيث إنه يغير الطبائع ويغير الأحوال، ويغير الأعمال، ويغير القلوب والتصرفات.
إنه الإيمان الذي يغير القلوب، ويرفع الهمم، وينتج المواقف الإيمانية التي وفق لها سادات المؤمنين، والتي يرتفعون بها في الدنيا وعند الله رب العالمين.