للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كفى بالموت واعظاً

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أما بعد: قوله رحمه الله: ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلفه بعدكم الباقون، ألا ترون أنكم تشيعون في كل يوم غادياً رائحاً إلى الله تعالى، قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد قطع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب؟! لا شك أن الموت عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين! كان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة وقف وقال: موعظة بليغة وغفلة شنيعة، يذهب الأول والآخر لا يعتبر.

وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا شهد جنازة يقول: اغدوا فإنا رائحون.

وكان السلف رضي الله عنهم لا يعرفون أهل الميت من غيرهم لبكاء الجميع، فكل يبكي على جنازة نفسه لا على الميت: كل ابن آدم وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول ألا للموت كأس أي كأس وأنت لكأسه لا بد حاسي إلى كم والممات إلى قريب تُذَكَّر بالممات وأنت ناسي قال الحسن البصري رحمه الله: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فيها فرحاً، وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت في عينه الدنيا وهان عليه كل ما فيها.

ونظر ابن مطيع إلى داره فأعجبه حسنها ثم بكى وقال: والله لولا الموت لكنت به مسروراً، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا.

تذكروا -عباد الله- إخواننا الذين كانوا معنا ثم رحلوا، تذكروا -عباد الله- من عرفناهم ومن عايشناهم ثم رحلوا عنا! أين ذهبوا؟ سألت الدار تخبرني عن الأحباب ما فعلوا فقالت لي أناخ القوم أياماً وقد رحلوا فقلت فأين أطلبهم وأي منازلٍ نزلوا فقالت بالقبور وقد لقوا والله ما فعلوا أناس غرهم أمل فبادرهم به الأجل فنوا وبقي على الأيام ما قالوا وما عملوا وأُثبت في صحائفهم قبيح الفعل والزلل ندامى في قبورهم وما يغني وقد حصلوا أين من كانت الألسن تهذي بهم لتهذيبهم، وصار خلق الاختبار يجري بهم لتجريبهم، أقام قيامتهم منادي الرحيل فصاروا في القبور وحداناً لا أنيس لغريبهم؟ أين أهل الوداد الصافي في التصافي؟ أين الفصيح الذي إذا شاء أنشأ في القول الصافي؟ أين قصورهم التي تضمنتها مدائح الشعراء؟ صار ذكر القوي في القوافي، لقد نادى الموت أصحاب العوالي، والقصور العوالي الطوافي.

نعى الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى نفسه وهو في الدنيا، فقال عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠]، وقال عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧].

أرسل عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أخيه يعزيه في وفاة ابنه فقال: أما بعد: فإنَّا أناس من أهل الآخرة أُخرجنا إلى الدنيا، والعجب من ميت يبعث إلى ميت يعزيه في ميت.

والسلام.

ألا ترون أنكم تشيعون في كل يوم غادياً رائحاً إلى الله تعالى، قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد قطع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب.

اللهم أيقظنا من غفلتنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تهدي الضالين، وأن ترد الغائبين إلى بيوتهم يا رب العالمين! اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين! اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا! اللهم أعز من أعز الدين، وأذل من خذل الدين! اللهم إنا نسألك أن تعزنا بالإسلام قائمين، وأن تعزنا بالإسلام قاعدين، وألا تشمت بنا الأعداء والحاسدين.

وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.