كذلك هذا الشهر الكريم عباد الله! كله بركة وخير ورحمة، ولكن آخره أشرف من أوله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخص العشر الأواخر من رمضان بأنواع من العبادات كما تقول عائشة رضي الله عنها:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله) وشد المئزر قيل: علامة على الجد والاجتهاد في العبادة.
والصحيح: أن شد المئزر علامة على اعتزال النساء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، والمعتكف ممنوع من مباشرة النساء، كما قال الله عز وجل:{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة:١٨٧] فالمباشرة تفسد الاعتكاف، فكان يشد المئزر، وما ذلك إلا لأن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليل رمضان وقال:{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}[البقرة:١٨٧]، أباح لهم أن يستمتعوا بالنساء في ليالي العشرين الأولى من رمضان، ثم ندبهم إلى الاجتهاد في تحري ليلة القدر وطلبها، وأن لا يظلوا في اللهو المباح، فيضيع عليهم ثواب هذه الليلة التي تساوي عمر الإنسان، والتي لو قامها العبد إيماناً واحتساباً لغفر الله عز وجل له ما تقدم من ذنبه.
قال الإمام مالك رحمه الله في موطئه:(بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته) أي: خشي ألا يبلغوا من الدرجة ومن الفضل ما بلغته الأمم السابقة، قال:(فأعطاه الله عز وجل ليلة القدر خير من ألف شهر)، أي: خير من أكثر من ثمانين سنة، فمن حرم خيرها فقد حرم.
فينبغي على العبد أن يتحرى العشر الأواخر من رمضان، فإنه قد مضى منها شطرها، فعلينا أن نجتهد فيما بقي.
والسبع الأواخر من رمضان كذلك أشرف من أول هذه العشر، فينبغي أن يجتهد العبد في طلب ليلة القدر، فمن العبادات التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم هذه العشر اعتزال النساء، ومن ذلك أنه كان يحيي ليله، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل طوال السنة، كما أمره الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل:١ - ٥].
فكان يقوم كل يوم في السنة ثلث الليل أو نصف الليل، يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً، فقوله:(أحيا ليله)، قيل: أحيا معظم الليل، أي: كان يحيي معظم الليل في رمضان ويطيل قيامه.
قوله:(وأيقظ أهله) أي: للقيام، فهذه عبادات خص بها النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان.