[ظهور بشرية سليمان في عدم إحاطته بعلم كل شيء رغم اتساع سلطانه ومملكته]
ثم قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:٢٠].
تفقد سليمان عليه السلام مملكته، قال المفسرون: كان يأتيه من كل جنس من الطير نوع واحد، وهذا يدل على أن الطير خاضع لسلطان سليمان، مسخر لأوامره عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما تفقد أنواع الطير عرف أن الهدهد غائب، وهذا فيه دلالة على أن الملك أو الرئيس أو الأمير ينبغي له أن يتفقد رعيته.
فقوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:٢٠]، أي: هل غاب عن عيني وهو من الموجودين، أم كان من الغائبين؟ ثم تهدد وتوعد: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:٢١]، وأراد بالسلطان هنا حجة تغيبه عن هذا الموكب وعن الحضور معهم عندما كان يمر عليهم سليمان ويتفقد الرعية، وعبر القرآن بقوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:٢١]، فقد أتى بعد ذلك بسلطان بلقيس، وإنما سميت الحجة سلطاناً؛ لأن صاحب الحجة قوي، فقال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:٢١]، فيعفو عنه عند ذلك.
قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:٢٢]، أي: ما غاب الهدهد طويلاً، وهذا يدل على إحكام هذه المملكة، وأنهم خاضعون لحكم سليمان وأمره، فلم يختف الهدهد طويلاً، بل جاء يعتذر إلى سليمان ويقول: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:٢٢ - ٢٤].
فهذا الهدهد أتى سليمان عليه السلام، وأخبره بما خفي عليه من العلم، وهذا يدل على أن فوق كل ذي علم عليم، وأن الصغير قد يكتشف ما لا يعلمه الكبير، فهذا عمر رضي الله عنه كان ذا علم غزير، حتى أنه لما مات قالوا: ذهب تسعة أعشار العلم، لكن مع علمه الغزير غاب عنه سنة الاستئذان، وذلك لما أتى أبو موسى الأشعري إلى عمر رضي الله عنه فاستأذن عليه ثلاثاً فلم يؤذن له، فقال عمر: ألم أسمع عبد الله بن قيس؟ فطلبه عمر، فلما جيء به قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن لك وإلا فارجع)، فقال: البينة وإلا حد ظهرك، أي: لا بد أن تأتيني ببينة وبمن يشهد معك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فذهب أبو موسى الأشعري يلتمس من يشهد له، فأخبر جماعة من الصحابة ما قاله له عمر، فقالوا: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، وكان أصغرهم أبا سعيد الخدري، فذهب مع أبي موسى الأشعري، وشهد عند عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن لك وإلا فارجع).
وغاب عن أبي بكر ميراث الجدة، حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس.
فالكبير قد يغيب عنه ما علمه الصغير، فهذا الهدهد أتى إلى نبي الله سليمان الذي علمه الله من كل شيء حتى لغة الطير ولغة النمل، وقال له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:٢٢]، والحكمة من ذلك حتى لا يعجب العالم بعلمه، فالله عز وجل يقدر له ما يعرفه قصور علمه حتى يرجع إلى الله عز وجل، ويعترف بقصوره في العلم، يعرف أن فوق كل ذي علم عليم.
فأتى الهدهد بصولة العلم يقول: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:٢٢]، أي: أتيتك بما لم تعلم به من الأخبار، {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:٢٢].
ثم قال الهدهد: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:٢٣]، فكان أول ما أنكره هذا الهدهد الذي كان يعيش في مملكة سليمان الموحدة لله عز وجل أن تكون امرأة ملكة لدولة فقال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:٢٣]، وهو يعلم أن المرأة لا يمكن أن تكون ملكة ولا خليفة ولا قاضية.
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الفرس أمروا عليهم ابنة كسرى، فقال: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
فكان هذا أول ما أنكره الهدهد، إذ قال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأ