[تفسير قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق)]
ثم يذكر الله عز وجل القيامة الصغرى وهي الموت، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩].
ولما كان أبو بكر رضي الله عنه في النزع دخلت عليه عائشة رضي الله عنها وتمثلت قول الشاعر: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فقال: دعي هذه وقولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:٨]، وكيف يكون حال الإنسان إذا فر من عدو أو من سبع ثم وجده في مواجهته ملاقيه مقابلاً له؟ ثم يذكر الله عز وجل القيامة الكبرى، ونفخة البعث والنشور فيقول: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:٢٠ - ٢١]، أي: سائق يسوقها إلى الله عز وجل، وإلى حيث أمر الله عز وجل، وشاهد يشهد عليها بأعمالها.
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:٢٢]، قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن الله عز وجل أوحى إليه بهذه الشريعة العظيمة، وهذه الأمور الغيبية، وكان قبل ذلك لا يعلم ذلك، كما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:٧]، أي: لا تعرف الهداية والدين، فهداك الله عز وجل إلى أقوم طريق وإلى أقوم دين.
وقيل: الخطاب للكافر، {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:٢٢]، أي: كان غافلاً عن الآخرة، لا يؤمن بها، ولا يسعى لها سعيها، ولا يعمل لها عملها.
وقيل: الخطاب لعموم الإنسان، كما أشار إلى ذلك قوله عز وجل: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:٢١]، أي: كل إنسان معه سائق ومعه شهيد، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:٢٢]، أي: كشفنا عنك غطاء الغفلة فالآن بصرك اليوم حديد، أي: من الحدة، كما قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم:٣٨]، فهم يرون الأمور، ويرون كل شيء يوم القيامة.
وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:١٢]، فهم أيقنوا عندما رأوا بعيني رءوسهم أمور الآخرة وآمنوا بها إيماناً جازماً، ولكن هذا الإيمان لا ينفعهم؛ لأنهم قد خرجوا من دار الابتلاء ومن لجنة الامتحان، وهم الآن يعرضون على الملك الجبار حتى يحكم الله عز وجل فيهم بحكمه.
{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:٢٣]، أي: من وكلت به قد أحصيت عليه أعماله وأقواله، وأتيت به إلى العرض على الملك الجبار حتى ينفذ فيه حكم الله عز وجل، وحتى يصدر عليه الحكم من المحكمة الإلهية.
فالله عز وجل لا يغفل عن المؤمنين الموحدين والدعاة إلى دين رب العالمين، ولا يغفل عن المكذبين والمفسدين، والذين يصدون عن سبيل رب العالمين ويبغونها عوجاً، أفلا يتفكر أعداء الإسلام في هذه الآيات الكريمات؟ أفلا يفعلون ألف حساب للموقف بين يدي ملك الأرض والسموات؟ ثم يصدر الحكم من الملك الجليل عز وجل: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:٢٤]، أي: يكفر بنعم الله عز وجل، ويتمتع بها ولا يشكرها، ولا يستعملها في طاعة الله عز وجل، {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:٢٤].
يعاند الحق، ويعرفه ولا يتبعه.
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} [ق:٢٥]، أي: ليس فيه خير ولا نفع لأمته ولا لنفسه ولا لأولاده ولا لعشيرته، {مُعْتَدٍ} [ق:٢٥].
بل يتعدى على الناس في أموالهم وفي أعراضهم وفي دمائهم، {مُرِيبٍ} [ق:٢٥]، أي: مشكوك فيه وفي أمره، فهو صاحب ريبة وشكوك.
{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:٢٦] فالذين يحكم عليهم الله عز وجل بهذه الحكم العدل من صفاتهم: أنهم يكفرون بنعم الله عز وجل، ويعاندون الحق، {كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} [ق:٢٤ - ٢٥]، يمنع الخير عن نفسه وعن غيره {مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:٢٥ - ٢٦].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.