[موقف أبي عبيدة بن الجراح في الصبر والرضا]
ومن المواقف الإيمانية في الصبر على البلاء والرضا بالقضاء: موقف أبي عبيدة بن الجراح، وأبو عبيدة هو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم، شهد بدراً وقتل يومئذ أباه، وأبلى يوم أحد بلاءً حسناً، ونزع الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانقلعت ثنيتاه، فحسن ثغره بذهابهما، حتى قيل: ما رئي هتم قط أحسن من هتم أبي عبيدة.
فرضيه أبو بكر رضي الله عنه خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر وأبا عبيدة.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح).
ومناقبه رضي الله عنه كثيرة شهيرة، ومواقفه الإيمانية عالية رفيعة في البذل والتضحية والزهد، وإنما قصدنا موقفه الإيماني عند نزول وباء الطاعون.
عن قيس بن مسلم عن طارق أن عمر كتب إلى أبي عبيدة في الطاعون: إنه قد عرضت لي حاجة، ولا غنى بي عنك.
كان أبو عبيدة في هذا الوقت على رأس جيش في الشام، فلما سمع عمر رضي الله عنه بوقوع طاعون عمواس أرسل إلى أبي عبيدة، وطاعون عمواس منسوب إلى قرية تسمى عمواس بين الرملة وبين بيت المقدس.
وقال الأصمعي: هو من قولهم: زمن الطاعون عم وآسى.
يعني: فاختصر وقيل له: عمواس، ولكن الصحيح الأول، والله أعلم.
فلما سمع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بنزول الطاعون أرسل إلى أبي عبيدة فقال له: إني قد عرضت لي حاجة، ولا غنى بي عنك فيها، فعجل إلي، فلما قرأ الكتاب قال: عرفت حاجة أمير المؤمنين؛ إنه يريد أن يستبقي ما ليس بباق.
فكتب: إني قد عرفت حاجتك، فحللني من عزيمتك؛ فإني في جند من أجناد المسلمين، لا أرغب بنفسي عنهم، فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقيل له: مات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأن قد، قال: فتوفي أبو عبيدة، وانكشف الطاعون.
وروى ابن المبارك في الزهد عن شهر بن حوشب -وهو مختلف فيه- قال: حدثني عبد الرحمن بن غنم عن الحارث بن عميرة قال: أخذ بيدي معاذ بن جبل فأرسله إلى أبي عبيدة فسأله: كيف هو؟ وقد طعن، فأراه أبو عبيدة طعنة، يعني: إصابة الطاعون، وهو يظهر على شكل أورام يصيب الغدد اللمفاوية، ويظل ينتشر في أماكن متفرقة في الجسم، وينتقل إلى الرئتين وغير ذلك، يقول: وقد طعن، فأراه أبو عبيدة طعنة خرجت في كفه، فتكاثر شأنها في نفس الحارث وفرق منها حين رآها، يعني: انزعج عندما رأى هذه الطعنة، فأقسم أبو عبيدة بالله إنه ما يحب أن له مكانها حمر النعم.
فصبره رضي الله عنه وعدم استجابته لاستدعاء أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ثم رضاه بما أصيب به من الطاعون وعدم تمنيه زوال البلاء هو عين الرضا.
فالإنسان لا يتمنى البلاء أبداً، لأن ساحة العافية هي أوسع، ولكن إذا نزل بلاء فيصير ميدان الصبر هو الميدان الواسع، وأعلى منه ميدان الرضا، وهو عدم تمني زوال ما هو فيه.
فصبره رضي الله عنه وعدم استجابته لاستدعاء أمير المؤمنين عمر ثم رضاه بما أصيب به من الطاعون وعدم تمنيه زوال البلاء هو عين الرضا، وهو أعلى الدرجات، ومن أولى بذلك من الصحابة الكرام، ثم من أولى بكل فضيلة من العشرة المبشرين رضي الله عنهم أجمعين.