للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة من خلق الخلق]

الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه، وسلم تسليماً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

عباد الله! إن الله لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم، عرضه على السماوات والأرض والجبال فأبين وأشفقن منه إشفاقاً ووجلاً، وقلن: ربنا إن أمرتنا فسمعاً وطاعة، وإن خيرتنا فعافيتك نريد لا نبغي بها بدلاً، وحمله الإنسان على ضعفه وعجزه عن حمله، وباء به بظلمه وجهله، فألقى أكثر الناس الحمل عن ظهورهم لشدة مئونته عليهم وثقله، وصحبوا الدنيا صحبة الأنعام السائمة، لا ينظرون في معرفة موجدهم وحقه عليهم، ولا يتفكرون في قلة بقائهم في الدنيا الفانية، وسرعة مصيرهم إلى الآخرة الباقية، فقد ملكهم باعث الحس، وغاب عنهم داعي العقل، وشملتهم الغفلة، وغرتهم الأماني الباطلة والخدع الكاذبة، إذا بلغهم حظ من الدنيا بآخرتهم طاروا إليه زرافات ووحداناً، ولم يؤثروا عليه فضلاً من الله ولا رضواناً، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون.

خلق الله عز وجل الخلق من أجل وظيفة معينة ومن أجل مهمة معينة، فمن عمل بهذه الوظيفة ومن قام بهذه الوظيفة حق القيام أفلح وأنجح وسعد في الدنيا والآخرة، ومن تغاضى عن هذه الوظيفة ولم يهتد إلى معرفتها أو عرفها ولكنه لم يقم بها خاب وخسر وكان حظه في الدنيا الضنك والشقاء والهم والغم والحزن، وينتقل من ذلك إلى ضيق الآخرة وإلى عذاب الآخرة، والآخرة أدهى وأمر.

ما خلقنا الله عز وجل لأجل أن ننشغل بالكرة، وننظر أي فريق من فرق الكرة ينتصر، وما خلقنا الله عز وجل للجلوس على المقاهي، وما خلقنا الله عز وجل للهو والعبث، وما خلقنا الله عز وجل من أجل أن نتسمر أمام شاشة الفيديو أو التلفاز أو استقبال البث المباشر.

لقد بين الله عز وجل الوظيفة التي خلق الله عز وجل من أجلها الخلق، والتي من أجلها أرسل الله عز وجل الرسل، فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] فالله عز وجل خلق العباد من أجل أن يعبدوه وحده عز وجل، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: إلا ليعرفون.

أي: ليعرفوا الله عز وجل ويوحدوا الله عز وجل، ليعرفوا الله عز وجل بأسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته.

وهذه المعرفة تدعوهم إلى عبادة الله عز وجل وحده، فالله عز وجل خلق العباد من أجل الطاعة والعبادة، وأرسل الله عز وجل الرسل من أجل أن يدعوا الناس إلى عبادة الله عز وجل، ومن أجل أن ينبهوا الناس إلى الوظيفة التي خلقهم الله عز وجل من أجلها، فقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥].

وقال عز وجل: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:٤٥].

وأول أمر في كتاب الله عز وجل أمر بالعبادة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١].

فالله عز وجل خلق الخلق من أجل أن يعبدوه عز وجل، ومن أجل أن يفردوه عز وجل بالعبادة، فمن عرف هذه الوظيفة وقام بها أفلح وأنجح وسعد في الدنيا والآخرة.

هذه الوظيفة فهمها تلامذة النبي صلى الله عليه وسلم والدعاة إلى الله عز وجل في كل زمان ومكان، فينبغي عليهم أن يجعلوا هذه الوظيفة نصب أعينهم، وأن يعلموا أن مهمتهم هي مهمة الرسل، لأنهم أتباع الرسل، والرسل