[المفاضلة بين العلم والمال في كلام علي بن أبي طالب]
ثم شرع رضي الله عنه في بيان شرف العلم وفضله على المال، فقال: يا كميل! العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه، ومحبة العلم دين يدان بها.
وذكر ابن القيم في شرح هذا الحديث في كتاب (مفتاح دار السعادة) أربعين وجهاً من أوجه فضل العلم على المال.
ومن ذلك: أن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء، والنفس تزكو بتحصيل العلم والحرص عليه، فالحرص على العلم والتعلم عين كمال العبد، والحرص على المال وطلبه هو عين نقصه، وهو يهلك الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، أي: أن الدين يفسد بحرص العبد على المال وعلى الشرف وشدة محبتهما والمبالغة في طلبهما.
والحرص على الشرف المقصود به في هذا الحديث: الرفعة في الدنيا والجاه والشهرة وغير ذلك، فدين المرء يفسد بحرصه على المال وعلى الشرف، مثل: فساد الغنم التي غاب عنها راعيها وأرسل فيها ذئبان جائعان، فالنفس تزكو بطلب العلم والحرص عليه، فحرصه على العلم عين كمالها، وحرصه على المال عين نقصها.
ومن ذلك: أن لذة المال لذة وهمية أو بهيمية، ولذة العلم لذة ملائكية، فلذة المال لذة وهمية، فهو يفرح بتكثير المال وهذه شهوة من الشهوات، كما قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران:١٤]، فهذه شهوة مثل شهوة النساء والبنين.
وربما يسعى المرء إلى تكثير المال الذي قد لا ينتفع به ولا ينفقه، ولكنه يفرح بزيادته حتى يصل مقادير لا يمكن أن ينفقها مهما طال عمره، كما قال تعالى: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران:١٤]، هذه لذة وهمية، أو لذة بهيمية، فهو يحصل بهذا المال على الشهوات التي يشترك فيها الإنسان مع البهائم.
أما لذة العلم فهي لذة ملائكية، يشبه فيها ملائكة الله عز وجل.
ومن أوجه فضل العلم على المال أيضاً: أن التمتع بالمال ينقطع بمفارقة بالدنيا، يعني: الإنسان يتمتع بماله في الدنيا، أما لذة العلم فمتصلة، حتى إنهم يقولون: إن من نعيم العلماء في الآخرة أنهم تنكشف لهم المسائل التي اختلفوا فيها في الدنيا، فتنكشف لهم حقائق هذه المسائل ووجه الصواب فيها، فتكون فيها متعة زائدة للعلماء زيادة عن متعة غيرهم من أهل الجنة، لا شك أنه العالم عندما يهتدي في الدنيا للصواب في المسألة، أو يوفّق في تحقيق مسألة لا شك أنه يجد فرحة وحلاوة في قلبه.
ومن أوجه فضل العلم على المال أيضاً: ما ذكره علي بن أبي طالب في هذا الأثر: العلم خير من المال، العلم يحرسك، فالعلم يحرس الإنسان من الوقوع في الشهوات والشبهات، وأما المال فيحتاج إلى حارس.
والعلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، فإذا أنفق العبد من علمه فإنه يثبت في قلبه، ويفتح الله عز وجل عليه بعلم جديد، كما ورد في تفسير قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩].
وقد قيل: من عمل بما علم أورثه الله عز وجل علماً جديداً، والإنسان عندما يتعلم مسألة من مسائل الشرع فيعمل بها ويعلمها غيره فإن الله عز وجل يكافئه عليها بتعليمه علماً جديداً ومسألة جديدة من مسائل العلم.
فالعلم يزكو على الإنفاق، فزكاة العلم بالعمل به وبالإنفاق، فالعلم يزكو بالعمل به وبالإنفاق، والمال تنقصه النفقة.
والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، فالعلم يحكم على الملوك فمن دونهم، وأما المال فمحكوم عليه.
ومحبة العلم دين يدان بها؛ لأن محبة العلم تدعو إلى تعلمه وإلى العمل به، وهذا دين يدان الله عز وجل به.
ومن فضل العلم على المال: أن الإنسان يمدح بتخليه عن المال وبإنفاقه، ويمدح بتحليه بالعلم، فالإنسان عندما ينفق المال يمدح ويقال: هذا جواد وكريم، ويمدح بتحليه بالعلم.
والعلم يكسب العالم الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته، يعني: الثناء الحسن والذكر الطيب بعد وفاته، وهذه حياة ثانية، وصنيعة المال تزول بزواله.
فالعلم يكسب العالم الطاعة في حياته لحاجة الناس إلى العلم ومحبتهم له.
دخل رجل إلى البصرة فقال: من سيد هذه القرية؟ فقالوا: الحسن البصري، فقال: بم سادهم؟ فقالوا: احتاجوا إلى علمه واستغنى عن دنياهم.
وأما الصنائع التي تجعل لصاحب المال من الاحترام والتحية والإكرام والخدمة وغير ذلك فكل ذلك يزول بزوال هذا المال، كما قال بعضهم: وكان بنو عمي يقولون مرحباً فلما رأوني معسراً مات مرحب فالصنائع التي تصنع لصاحب المال من أجل ماله تذهب بذهاب هذا المال، وأما العلم فيبقي الثناء الحسن والمحبة في قلوب الخلق حتى بعد وفاة العالم.
فقد مات خزان الأموال وهم أح