[نماذج من خوف السلف من الله عز وجل]
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
ثم أما بعد: عباد الله! كان السلف في غاية الاجتهاد في طاعة الله عز وجل، ومع ذلك كانوا في غاية الخوف من الله عز وجل.
دخلوا على الجنيد وكان في النزع وكان يصلي فقالوا له: الآن؟! قال: الآن تطوى صحيفتي.
ودخلوا على أبي بكر النهشلي وكان صائماً وكان في النزع، فقالوا له: اشرب قليلاً من الماء، فقال: حتى تغرب الشمس.
وكان ثابت البناني يقول: يا رب! إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي.
وكان يزيد الرقاشي يبكي ويقول: يا يزيد! من يبكي بعدك لك؟ من يترضى ربك عنك؟ وبكى أحد السلف فسئل عن سبب بكائه فقال: سمعت الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:٢٧].
وبكى أحد السلف عند موته فسئل ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم.
أي: أنه يشفق لترك هذه العبادات بعد الموت.
فأين وصفك من هذه الأوصاف؟ وأين شجرة سالزيتون من شجر الصفصاف؟ لقد قام القوم وقعدت، وجدوا في الجد وهزلت، وما بيننا وبين القوم إلا كما بين اليقظة والنوم.
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس السليم إذا مشى كالمقعد يا ديار الأحباب! أين السكان؟ ويا منازل العارفين! أين القطان؟ ويا أطلال الوجد! أين البنيان؟ أماكن تعبدهم باكية، ومواطن خلواتهم لفقدهم شاكية، زال التعب وبقي الأجر، ذهب ليل النصب وطلع الفجر.
إن كنت تنوح يا حمام البان للبين فأين شاهد الأحزان؟ أجفانك للدمع أم أجفاني لا يقبل مدع بلا برهان ونحن ينطبق علينا -عباد الله- قول القائل: يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد! وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد! يا من يسمع ما يلين الجوامد! وتركه جانباً، وقلبه أقسى من الجلامد! إلى متى تدفع التقوى عن قلبك؟ وهل ينفع الطرق في حديد بارد؟ يقول من رأى سفيان الثوري: كنا إذا جلسنا إلى سفيان كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه.
ويقول من رأى الحسن البصري: كان إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أسير أمر بقطع رقبته، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له.
وقيل له: نراك شديد البكاء؟ فقال: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي.
وكان يقول: إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى وإنهم والله الأصحاء، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولا تعاظم في قلوبهم شيء طلبوا به الجنة، إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله عليه نعمة في غير مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه.
وقد كان كلامه يشبه كلام الأنبياء.
وكانوا يقولون عنه: كأنه عاين الآخرة وأتى يخبر عنها.
وقد كان الناس قبل ظهور الحسن البصري معجبين بـ مسلم بن يسار، فقد كان يقوم في الصلاة كأنه عود من الخشوع، فلما ظهر الحسن البصري فكأنه رجل عاين الآخرة ثم أتى يخبر عنها.
ولما نزل الموت بـ محمد بن المنكدر رحمه الله بكى بكاءً شديداً، فأحضروا له أبا حازم الزاهد من أجل أن يخفف عنه، فسأله أبو حازم عن سبب بكائه؟ فقال له: سمعت الله عز وجل يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:٤٧]، فأخاف أن يبدو لي من الله عز وجل ما لم أكن أحتسب.
قال: فأخذ أبو حازم يبكي معه، فقالوا: أتينا بك من أجل أن تخفف عنه فزدت في بكائه.