للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قال قرينه ربنا ما أطغيته)]

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

ثم قال عز وجل: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:٢٧ - ٢٩].

وهذا القرين -عباد الله! - هو قرينه من الجن ومن الشياطين، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:٣٦].

وهذا ليس مع كل أحد، بل مع من أعرض عن ذكر الله عز وجل، فيقيض الله عز وجل له هذا القرين.

قال سفيان بن عيينة: لا تأتوني بمثل إلا وجئتكم من القرآن بما هو مثله أو أعظم منه.

فقيل له: في المثل يقولون: أعط أخاك تمرة فإن لم يقبل فأعطه جمرة فأين مثله في القرآن؟ قال: قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:٣٦]، فالذي يعرض عن ذكر الله وطاعته وهدايته ودينه عز وجل يوظف الله عز وجل له قريناً من الجن -أي: من الشياطين- يزين له الباطل، ويزخرفه له، ويشوه له الحق، ولا يجبره على معصية الله عز وجل وعلى الكفر به عز وجل، ولكنه مكر الليل والنهار، وتزيين الباطل وتزييف الحق، كما قال الله عز وجل: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:٢٢].

فيقول عز وجل: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [ق:٢٧]، أي: ما أجبرته على الضلال وعلى الكفر وعلى المعصية، {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:٢٧].

فهو الذي كان في ضلال بعيد.

قال عز وجل: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:٢٨]، والله عز وجل حذرنا من الشيطان وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:٦]، فاتخذه أكثر الناس صديقاً وناصحاً وخليلاً.

{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:٢٩]، أي: أن الله عز وجل لا يغير وعده ولا يخلفه، ولا يخلف كذلك وعيده، {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:٢٩]، ومع ذلك فالله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة.

{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:٣٠] والناس يستكثرون العصاة، ويظنون أن جنهم لا تسع هؤلاء ولا تسع للكافرين، والله عز وجل قد وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، فكلما ألقي فيها يقال لها: هل امتلأت؟ حتى ينفذ وعد الله عز وجل؟ فتقول: هل من مزيد؟ هل من مزيد؟ لأن وقودها الناس والحجارة.

وقد ورد في الحديث الصحيح: (أنها لا تزال تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة قدمه فيها، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط).

وهذا الحديث من أحاديث الصفات، ينبغي أن نؤمن به، وأن نعلم أن الله عز وجل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:٣٠].