[حفر الخندق وما صاحبه من بشارة الله لنبيه وأصحابه]
لما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة الكرام، فأشاروا عليه أن يحفر خندقاً بين حرتي المدينة، والحرة: هي الأرض ذات الحجارة السوداء، والمدينة بين حرتين: حرة الواقم وحرة الوبرة، فاستجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الرأي وشرع في حفر الخندق، وشرع الصحابة الكرام يحفرون الخندق، فقيل: مكثوا أربعة عشر يوماً، وقيل: عشرين يوماً وقيل: شهراً يحفرون الخندق، وكانت سنة فيها مجاعة في المدينة، وفيها قر -أي: برد- وفيها ريح شديدة، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصحابة وهم يحفرون، فخرج إليهم فوجد ما فيهم من مشقة فقال:(اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة) فأجابوه قائلين: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً.
وكانوا يرتجزون ويقولون: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينةً علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمد بها صوته: أبينا أبينا أبينا.
وكان يربط على بطنه حجراً من شدة الجوع.
وعرضت كدية عظيمة للصحابة وهم يحفرون الخندق، وذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم يضرب الكدية بنفسه، فضربها ضربة أضاء ضوء تحت المعول، ثم ضرب ضربة ثانية فأضاء ضوء تحت ضرب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب الضربة الثالثة فأضاء ضوء تحت المعول، وكلما أضاء ضوء يقول:(الله أكبر) ففي الأولى قال: (الله أكبر أُعطيت مفاتيح الشام، ثم ضرب ضربة فقال: الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس، وضرب الثالثة فقال: الله أكبر أُعطيت مفاتيح اليمن)، بشّره الله عز وجل بفتح هذه البلاد، والأحزاب الكافرة تتوجه إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أجل أن يستأصلوا شأفة المسلمين، فالله عز وجل يبشّر نبيه، ويثبّته وصحابته الكرام.
فالأسباب الأرضية عباد الله! كلها توافق أن الأحزاب سوف تنتصر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (١٠٠٠٠) مقاتل من قبائل العرب، ثم غدرت بنو قريظة وكان فيهم (٧٠٠) مقاتل فصار العدد (١٠٧٠٠) مقاتل، وكانوا من فوق الصحابة ومن أسفل منهم، أي: كان موقع اليهود الاستراتيجي يؤهلهم لأن يضربوا المسلمين ضربة من الخلف.
ريح شديدة وحصار اقتصادي وبرد شديد ومجاعة بالمدينة، الأسباب الأرضية كلها تؤكد أن المشركين سوف ينتصرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة الكرام، ولكن الناس يغفلون أن فوق هذه الأسباب وفوق السماوات السبع رب قادر قاهر أبى إلا أن يُعز دينه، وأبى إلا أن ينصر جنده ويرفع رايته:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة:٣٢].
فمهما اجتمعت قوى الأرض عباد الله! على المسلمين فإن المسلمين وليهم الله عز وجل وهو ناصرهم ومدّبر شئونهم، هو الذي يملك السماوات والأرض، والذي أمره بين الكاف والنون، ينصر أولياءه بكلمة (كن).
فمهما تجمعت القوى الكافرة، ومهما اجتمعت الأسباب الأرضية الكثيرة، فإن الله عز وجل يُعطّل هذه الأسباب، ويمد المسلمين بجند من عنده:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}[المدثر:٣١]، فمهما اجتمعت أوروبا الكافرة مع أمريكا الغادرة، مع اليهود ومع النصارى ومع الشيوعيين ومع العلمانيين ومع المنافقين، ومهما كان الكفرة والفجرة والذين يعادون دين الله عز وجل، والذين لا يُحبون أن تكون الدولة للإسلام والجولة للإسلام، مهما اجتمعوا صفاً واحداً وحاربوا دين الله وحاربوا أولياء الله عز وجل؛ لا بد أن يهزمهم الله عز وجل، قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[المجادلة:٥]، وقال تعالى:{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}[الفتح:٢٢]، فكانت الأسباب الأرضية كلها عباد الله! تُشير إلى أن الأحزاب سوف تقضي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الصحابة الكرام.