[الحث على التوبة]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: قال بعضهم: أرقهم قلوباً أقلهم ذنوباً.
وقال بعضهم: المعاصي سلسلة في عنق العاصي لا يفكه منها إلا الاستغفار والتوبة.
وقال بعضهم: ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة.
هذه الليلة نرجو أن تكون ليلة القدر التي أخبر الله عز وجل عنها أنها خير من ألف شهر، ولم يقل: إنها تساوي ألف شهر، ولكن قال: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:٣]، ولا ندري كم مقدار هذه الخيرية، فلا يعلم ذلك إلا الله عز وجل.
وورد في موطأ الإمام مالك بلاغاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته -يعني: خشي ألا تصل أمته إلى ما وصلت إليه الأمم السابقة لطول أعمارها- فأعطاها الله عز وجل ليلة القدر خيراً من ألف شهر).
فهذه الليلة المباركة فرصة للتوبة وللقيام وللذكر وللعبادة وللطاعة وللدعاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
فهذه الليلة فرصة لنا جميعاً للتوبة إلى الله عز وجل والرجوع إليه عز وجل والعزم على ترك المعاصي.
عباد الله! مصيبتنا في التفريط واحدة، وأهل الأحزان أهل.
إنا ليجمعنا البكاء وكلنا يبكي على شجن من الأشجان قال بعض السلف: إذا عزم العبد على ترك الذنوب أتته الأمداد من الله عز وجل من كل جانب.
هذا إذا نوى العبد أن يترك الذنوب لله عز وجل، وكل واحد منا أدرى بذنوبه وبعيوبه، فينبغي لنا جميعاً أن ننوي في هذه الليلة المباركة التوبة إلى الله عز وجل والاستقامة على طريقه عز وجل.
فالله تعالى فتح هذا الباب العظيم -باب التوبة- وأمر كل الخلق بالدخول منه، وأمر اليهود والنصارى الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:٧٣]، وقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:٦٤]، فقال بعد أن ذكر حالهم: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:٧٤]، وأمر المشركين فقال عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:٥]، وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:١١].
وأمر المنافقين بالدخول من هذا الباب فقال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:١٤٥ - ١٤٦].
وأمر المسرفين على أنفسهم من أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن غيرهم فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].
كما أمر الله عز وجل المؤمنين الصادقين بالدخول أيضاً من باب التوبة فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:٣١]، وهذه الآية مدنية، أي: نزلت بعد الهجرة وبعد الإيمان والجهاد والصبر، فأمر الله عز وجل الصحابة الكرام بالتوبة وعلق صلاحهم بها فلا يرجو الفلاح إلا التائبون، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:٣١].
كما أخبر عز وجل عن توبته على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المهاجرين والأنصار فقال عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١١٧].