للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاعتبار بسرعة زوال الدنيا وتبدد زينتها وزخرفها]

قال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:٨٠ - ٨١]، والفاء للتعقيب، وهي إشارة إلى سرعة زوال الدنيا كما قال عز وجل: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:٧٧]، وقال عز وجل: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:٨١].

وهذه عاقبة كل جبار وكل متكبر وكل باغ: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:٨١] أي: به وبماله وخزائنه وقصره، فصار عبرة للمعتبرين ومن لم يعتبر بغيره صار عبرة لغيره، والسعيد من اعتبر بغيره والشقي من اعتبر بنفسه، قال عز وجل: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:٨١].

فإذا جاء عذاب الله عز وجل، وإذا جاءت نقمة الله عز وجل لا يستطيع من على وجه الأرض أن يردوا عذاب الله أو يحمي الطاغي الباغي من عذاب الله عز وجل أو من انتقام الله عز وجل، قال الله عز وجل عنه {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:٨١ - ٨٢]، فهنا علموا والعبرة أن تعلم وأن تعتبر قبل أن ينزل عذاب الله عز وجل، فالفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل، فهؤلاء ما عرفوا ذلك إلا بعد وقوع عذاب الله عز وجل بـ قارون، قال عز وجل: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:٨٢]، فقوله: (ويكأن) (وي) أداة للتعجب والندم، وكأنهم ندموا على مجرد هذا الظن، وعلى مجرد هذا التمني وقالوا: بأنهم كان يمكن أن يخسف بهم؛ لأنهم تمنوا ما فيه قارون مع أنه كان من البغاة وكان من الكافرين وكان من المتكبرين فتمنوا ما هو فيه.

فعند ذلك قالوا: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:٨٢] أي: لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة والعاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة.

فهذه عبرة كيف تزول الدنيا سريعاً عن أصحابها الذين يغترون بها ولا يعملون للآخرة ولا يبذلون في طاعة الله عز وجل ولا يستعملون نعم الله عز وجل عليهم في التقرب إلى الله عز وجل، {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:٨٢] أي: ليس بسط الرزق علامة على رضا الله، وليس تأخير الرزق علامة على سخط الله عز وجل، فليس الأغنياء هم الذين رضي الله عز وجل عنهم والفقراء هم الذين سخط الله عز وجل عليهم كما يظن أهل الكبر وأهل الغرور من الدنيا، {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:٨٢].

ثم عقب الله عز وجل هذه القصة بآية كأنها قانون وكأنها سمة ربانية فقال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣].

فالمتقون عباد الله وأهل الإيمان لا يريدون الدنيا ولكنهم يريدون الآخرة، وما قدر لهم من رزق في الدنيا فلابد أن يأتيهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرزق ليطلب ابن آدم كما يطلبه أجله)، وفي بعض الآثار كذلك: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه ثم يدركه الموت)، فما قدر له في الدنيا لابد أن يأتيه، ولكنه يطلب الآخرة فهمته أعلى من الدنيا لا يرغب في الحطام ولكنه يرغب في النعيم المقيم ومجاورة رب العالمين، لا يرضى بالدون ولا يبيع الأعلى بالأدنى بيع الخاسر المغبون.

{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣].

اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعط