ثم أراد سليمان أن يظهر آية من آيات نبوته، ومعجزة من معجزات نبوته، قال تعالى:{قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النمل:٣٨]، فقد علم سليمان أنهم سيأتون مسلمين، وذلك لقوة الإسلام ولقوة الحاكم المسلم ولقوة نبي الله سليمان، وهو الذي مات متكئاً على منسأته، أي: على عصاه، وظلت الجن مسخرة بين يديه في الأعمال الشاقة، وقيل: كانوا يبنون بيت المقدس، وكان قد أمر أهله ألا يخبروهم بموته حتى يستكملوا بناء بيت المقدس، قال تعالى:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[سبأ:١٤]، فظلوا مسخرين بين يدي سليمان وهو ميت متكئ على عصاه حتى أكلت الأرضة منسأته وسقط على الأرض، عند ذلك علموا أنه قد مات، وعندئذ علمت الجن أنهم لا يعلمون الغيب، فهذه بينة واضحة من الله عز وجل، إذا أراد الله عز وجل أن يرفع عبداً من عباده، أيده بالمعجزات والبينات الواضحات.
قال تعالى:{قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ}[النمل:٣٨ - ٣٩]، أي: وأنت في مجلسك قبل أن ينتهي مجلس القضاء، قيل: وكان مجلس القضاء من الصبح إلى الزوال، أي: إلى وقت الظهر.
قال تعالى:{وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}[النمل:٣٩]، أي: قوي على إحضاره في هذه المدة، أمين على ما فيه من الجواهر والنفائس، {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ}[النمل:٤٠]، قيل: من العلماء، أي: من علماء الجن، وقيل: كان يعلم الاسم الأعظم لله عز وجل، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}[النمل:٤٠]، هل تستطيع التكنولوجيا الحديثة أن تفعل ذلك؟! أتى بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه، {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ}[النمل:٤٠]، لم يقل: هذا بقوتي وبحولي وشجاعتي، بل قال:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}[النمل:٤٠]، فكان كلما أعطاه الله عز وجل نعمة شكره على هذه النعمة؛ لأنه يعلم أن الله عز وجل هو الذي سخر له الجن، وهو الذي أعطاه هذه الأسباب العظيمة، {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}[النمل:٤٠]؛ لأن الله عز وجل في غنىً عن شكر العباد، ولا ينفعه شيء من طاعات العباد، من أحسن فإنما يحسن لنفسه، ومن أساء فإنما يسيء عليها، ومن ظلم فإنما يظلم نفسه، والله عز وجل غني عن العباد وعن طاعاتهم، قال تعالى:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}[الحج:٣٧].
قال تعالى:{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ}[النمل:٤٠] أي: رأى سرير ملكها مستقراً عنده في طرفة عين، {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل:٤٠]؛ لأنه لا يحتاج إلى طاعات العباد، قال تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}[إبراهيم:٨].
قال تعالى:{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ}[النمل:٤١]، أي: غيروا شيئاً من صفات عرشها لنختبر عقلها هل تعرف أنه سرير عرشها أم لا، {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ}[النمل:٤٢]، قيل: إنهم غيروا فيه بعض التغيير، فلم يقولوا: هل هذا عرشك؟ بل قالوا: أهكذا عرشك؟ ولرجاحة عقلها قالت: كأنه هو، لم تقل: هو؛ لأنها وجدت فيه تغييراً، وقيل: لأنها تعجبت كيف أوتي به في هذه السرعة، وقد تركته تحت الأغلال وتحت القيود، فقالت: كأنه هو، ولما شبهوا لها بقولهم: أهكذا شبهت لهم بقولها: كأنه، قال تعالى:{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}[النمل:٤٢]، قيل: هذا من كلام الملكة، إذ إنها أسلمت قبل أن ترى هذه الآية، وقيل: هذا من كلام سليمان، أو من كلام من هم مع سليمان في مملكته، فقوله تعالى:{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا}[النمل:٤٢]، أي: صدق سليمان ونبوته؛ لكثرة المعجزات التي رأوها الدالة على صدقه.