[عدم خلو الأرض من قائم لله بحجة]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فيقول علي رضي الله عنه: اللهم بك لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه، لكي لا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش به الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك هم خلفاء الله في أرضه، ودعاته إلى دينه.
من رحمة الله عز وجل بأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ألا تضل، كما ضلت اليهود وكما ضلت النصارى، حرفت الكتب وبدلت الكتب، وضل الناس عن الحق، وضاع الحق في هذه الأمم السابقة.
أما أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وأمته خير الأمم، وهي نصف الجنة ببركة سفارة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حفظ الله عز وجل كتابها وحفظ سنة نبيها، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩] والذكر في الآية هو الكتاب والسنة، لأن السنة من الذكر.
وقال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤] فما نزل إليهم هو القرآن بلا مرية، والذكر في هذه الآية هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن كمال حفظ القرآن حفظ السنة، فحفظ الله عز وجل كتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظ الله عز وجل إجماع أمته، فلا يمكن أن تجتمع أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة.
كما حفظ الله عز وجل -وله الحمد والمنة على كل نعمة- حفظ طائفة من هذه الأمة، فهي لا تزال ظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم كذلك، كما ورد في الحديث الصحيح: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).
وهذا الظهور قد يكون ظهوراً كاملاً، ظهور سيف وسنان، وظهور حكم وسلطان، وأدنى هذا الظهور أن يكون ظهور حجة وبيان، فلا بد أن يوجد في الأمة من يقيم الحجة على سائر أهل زمانهم، ومن ينصر دين الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذه الطائفة الظاهرة بالحق عباد الله، وهذه الطائفة المنصورة مهما كادها أعداء الإسلام ومهما مكروا بها ليل نهار، فلا بد أن يبقى هذا الظهور، ولا بد أن تبقى هذه الطائفة ظاهرة تقيم الحجة على سائر عباد الله، وعلى سائر أهل زمانهم.
ثم قال: أولئك الأقلون عدداً أي: قد يقلون في الأعصار والأمصار، ولكن لا بد أن يبقى منهم طائفة، كما كانوا في زمن الإمام أحمد لما اقتنع الخليفة بما قالت المعتزلة الرديئة وأقنع كثيراً من الناس، وخضع له كثير من العلماء تقية وخوفاً، فقالوا بهذه المقالة، وثبت الإمام أحمد وطائفة يسيرة على عقيدة أهل السنة والجماعة.
وقيل للخليفة: أتكون أنت وولاتك وقضاتك والعلماء وعوام الناس على الباطل وأحمد وحده على الحق؟ ولم يتسع صدر الخليفة لتهدئة القضية، فأخذ الإمام أحمد بالضرب الشديد بعد الحبس الطويل، ثم ظهر الحق وبطل ما كانوا يدعون، وحفظ الإمام أحمد لهذه الأمة عقيدة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
فبثبات هذه الطائفة اليسيرة يبقى دين الله عز وجل، وتبقى حجج الله عز وجل، فلا بد أن يوجد بقايا من أهل العلم ومن أهل السنة والجماعة كما جاء في الحديث: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) لا بد أن يبقى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقايا من أهل العلم؛ لقيام الحجة على سائر أهل زمانهم.
فهؤلاء صنف فريد من الناس عباد الله، بل لو ذهب هذا الصنف لقامت القيامة، لا يذهبون حتى تأتي ريح من جهة الشمال فتقبض كل روح مؤمنة، ثم تقوم الساعة على شرار الخلق، فلو لم يوجد هذا الصنف في الأرض عباد الله! لوقعت الواقعة وقامت القيامة، فلا بد أن يبقى طائفة على الحق.
فقوله: أولئك الأقلون عدداً، وقد يكون الواحد منهم بألف أو بآلاف، فلا نغتر بالعدد، ولا نغتر بالكثرة، فقد يكون داعية واحد وعالم واحد في الأمة بالأمة بأسرها.
ويقول: أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته.
وهم الذين يتصدون لأهل البدع ولأهل الشبهات، ولأهل الشهوات ولأعداء دين رب الأرض والسماوات.
أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم.
أي: لا بد أن يوفق الله عز وجل لهم من يكون مثلهم؛ ليحمل هم الدين وهم الدعو