[تفسير قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد)]
تبدأ هذه السورة بقول الله عز وجل: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:١]، قيل: هذا قسم وجواب القسم مفهوم من السياق.
وقيل: ق من الحروف المقطعة في أوائل السور، فهي تشير إلى تحدي الله عز وجل بالقرآن، كما قال: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:١]، وقال: {الم} [البقرة:١]، ودائماً يأتي بعد هذه الحروف ذكر القرآن؛ تقوية للقول بأن هذه الحروف أتت على سبيل التحدي، فالله عز وجل يتحدى البشر بل يتحدى الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثل القرآن، مع أن القرآن من هذه الحروف العربية المعروفة.
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:٢].
كما يتعجب المجنون من العاقل، فهؤلاء يتعجبون من أمر ليس فيه عجب، بل لا بد أن يكون الرسول بشراً حتى يحس بإحساسهم، ويكون له من صفاتهم وملكاتهم حتى يقبل قوله ويعمل به، ولا بد أن يتكلم بلغتهم، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:١٠٩].
فهم يتعجبون من أن الله عز وجل أرسل إليهم رسولاً منهم، مع أنهم يعرفون صدقه وأمانته، ويعرفون شرف نسبه وكرم أخلاقه، ومع ذلك يتعجبون؛ لأن قلوبهم منكوسة، وفطرهم مطموسة.
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:٣].
فهم يتعجبون كيف يعيد الله عز وجل الخلائق مرة ثانية بعد أن تصير تراباً.
والأدلة على البعث في القرآن ثلاثة، وهي مذكورة في هذه السورة العظيمة: الدليل الأول: أن الله عز وجل يذكر العباد بالنشأة الأولى، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٨ - ٧٩]، فالذي خلق في المرة الأولى لا شك أنه يقدر على أن يخلق في المرة الثانية، بل في المرة الثانية يكون الأمر أهون عليه، وكل شيء هين على الله عز وجل، {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:٢٨].
الدليل الثاني: أن الله عز وجل يذكر الناس كيف تكون الأرض ميتة فينزل عليها المطر من السماء فتهتز وتنبت الكلأ والعشب، وتصير حية بالنبات، قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:١١]، أي: كذلك يحيي الله عز وجل الموتى، فقبل يوم القيامة ينزل من السماء مطراً مثل مني الرجال، فينبت الناس من الأرض من عجب الذنب وكأنها بذور في الأرض، وكل عظم يبلى من ابن آدم ويبقى عجب الذنب، وهو آخر العمود الفقري، ومنه يركب ابن آدم يوم القيامة.
الدليل الثالث: أن الله عز وجل يذكر الناس بخلق السماوات والأرض، ويقول: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:٥٧]، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:٦]، والذي يستطيع أن يبني قصراً لا تستطيع أن تتهمه بأنه لا يستطيع أن يبني حجرة، أو أن يبني شقة.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:٤]، أي: أن الله عز وجل يجمع كل ذرة من ذرات الإنسان، {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:٤]، أي: مسجل فيه كل شيء.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:٥]، أي: مختلط تختلط عليهم الأمور.