للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حب الدنيا سبب في سفه العقل وقلة الحلم]

الوجه السابع: أن محب الدنيا من أسفه الناس عقلاً، ومن أقلهم حلماً؛ لأنه قد تعلق بوهم زائل.

يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها إن اغتراراً بظل زائل حمق فأشبه الأشياء بالدنيا عباد الله! ظل تحسب أن له حقيقة وهو في تخلص وإلى زوال، وأشبه الأشياء بالدنيا كما قال تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:٣٩].

وأشبه الأشياء بالدنيا عباد الله! رجل نائم رأى في منامه ما يحب وما يكره، فبينما هو كذلك استيقظ.

وأشبه الأشياء بالدنيا عجوز شمطاء شوهاء تزينت للخطاب بكل زينة، وسترت كل قبيح، فاغتر بها من لم يجاوز بصره ظاهرها، فطلب النكاح فقالت: لا مهر إلا فقد الآخرة، فإننا ضرتان، واجتماعنا غير مأذون به ولا مستباح، فقال: ما على من أراد وصال محبوبته من جناح، فطلق الآخرة رغبة في وصالها، فلما خلا بها وكشف قناعها وفك إزارها، إذا كل آفة وبلية، فمنهم من طلق واستراح، ومنهم من آثر المقام، فما استتمت ليلة عرسه إلا بالصراخ والعويل، تالله لقد أذن مؤذنها على رءوس الخلائق بحي على غير الفلاح، فقام المجتهدون والمصلون لها فواصلوا غدوهم بالرواح، فلم يحمد القوم السرى عند الصباح، ووقعوا في شبكتها فأسلمتهم للذباح، وخرجوا في طلبها فما رجع منهم أحد إلا وهو مكسور الجناح.

يشبه العلماء الدنيا والآخرة -ولله المثل الأعلى- بملك بنى مدينة في أطيب مكان وأرفعه وأعلاه، وأطيبه هواء، ثم دعا الرعية إلى هذه المدينة وقال: من سبق إلى برج فهو له، ومن سبق إلى قصر فهو له، ومن سبق إلى غرفة فهي له، وشق إلى هذه المدينة طريقاً، وجعل في بداية الطريق ميداناً، وجعل في الميدان شجرة عجيبة عليها من أنواع الثمار والطيور والأزهار، فخرج الناس يطلبون مدينة الملك فمروا بهذا الميدان على هذه الشجرة، فجلسوا تحت الشجرة، وأعجبوا بالشجرة وما عليها من ثمار، وأزهار وأطيار وقالوا: كيف ننفر في الحر ونترك هذا الظل الظليل، والنقد خير من النسيئة، وذرة منقودة ولا برة موعودة، وجلسوا تحت الشجرة عباد الله! ثم قام من كل ألف رجل رجل، وقال: لا نترك مدينة الملك إلى هذه الشجرة، فعما قليل تسقط أوراقها، وتموت أطيارها وتنتهي ثمارها، ويحرقها قيمها، وخرجوا إلى السباق، ولم يشغلهم قلة الرفاق، يطلبون مدينة الملك، ويجتهدون في الوصول إلى بروجها وإلى نعيمها الدائم، ثم عما قليل حدث ما أخبروا به، فماتت الأطيار، وانتهت الثمار، وسقطت الأوراق، ثم أحرقها قيمها، فأحاطت النار بمن تحتهم، فقالوا: أين الذين تركونا وتسابقوا إلى مدينة الملك؟ فقيل لهم: انظروا فرأوهم يتمتعون في أبراجها، ويتفكهون في ظلالها، فتندموا على ما فاتهم من الخير، وزاد من حسرتهم أنه حيل بينهم وبينما يشتهون: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:١١٨].

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.