[افتقار العلم إلى من يحمله حق الحمل وأصناف الناس في ذلك]
ثم اشتكى علي رضي الله عنه من قلة طلبة العلم الذين يحملون عنه هذا العلم الجم الغزير، فقال: إن هاهنا علماً لو أصبت له حملة.
يجوز للعالم أن يخبر عما عنده من العلم، ليس على سبيل التفاخر والتعاظم، بل من أجل أن ينتفع به، ومن أجل أن يتعلم منه الناس، ومن أجل أن يسأله من يحتاج أن يسأل، ولذلك قال بعضهم: لا يجوز للعالم أن يضيع نفسه، بأن يكون في مكان لا يعرف فلا ينتفع به ولا يحمل عنه العلم، فقال رضي الله عنه: إن هاهنا علماً -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبت له حملة.
أي: يقومون بحمل هذا العلم ويقومون بحقه وبالواجب نحوه.
ثم ذكر أربعة أصناف من طلاب العلم الذين لا يستحقون أن يكونوا من حملة هذا العلم، فقال: بل أصبت لقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده.
وهذا هو الصنف الأول: من عنده ذكاء وليس عنده زكاء، أي: ليس عنده طهارة في قلبه، فهو يمكن أن يحفظ شيئاً من العلم، ولكنه لا يؤثر فيه ولا ينتفع به، وإنما يتكبر به على عباد الله عز وجل، لا يتواضع لله عز وجل، كما قال أيوب السختياني: ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعاً لله عز وجل.
فهؤلاء يتكبرون بما علموا على عباد الله، وقد يردوا الحجج الشرعية بالجدال والمخاصمة.
وقوله: وبنعمه على عباده.
أي: يتعالى بنعم الله عز وجل عليه على عباد الله.
ثم ذكر الصنف الثاني فقال: أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة.
أي: المقلد تقليداً محضاً.
والتقليد: هو أن تأخذ كلام غيرك من غير أن تعرف دليله من الكتاب والسنة، وأجمعوا على أن المقلد ليس من أهل العلم، وقالوا: لا فرق بين مقلد وبين بهيمة تقاد.
فقال: أو منقاداً لأهل العلم لا بصيرة له في أحنائه، أي: لا علم له بأدلة هذا الحق، فمثل هذا -عباد الله- ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة؛ لأنه ليس على بصيرة، وليس على علم، والعلم هو علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وهؤلاء ليس عندهم إلا قال فلان وقال فلان، والسند منقطع بينهم وبين القرآن، وبينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء ليسوا من أهل العلم.
ثم ذكر الصنف الثالث فقال: أو منهوماً باللذات، سلس القياد للشهوات.
أي: ليس له هم إلا أن يحصل على شهواته، فهو واقف مع حظوظه وشهواته، لا يلتفت في رضا الله عز وجل أم في غضب الله؟! ما لهؤلاء ووراثة النبوة؟ وهذه الأمة -عباد الله- جعل الله عز وجل لها في كل فترة منها بقايا من أهل العلم، كما كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي بعث الله عز وجل لهم نبياً، فهذه الأمة تسوسها العلماء، والعلماء هم ورثة الأنبياء.
فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد ثم قال: أو مغرىً بجمع الأموال والادخار.
أي: ليس له هم إلا أن يجمع المال، فهو يسعى ليله ونهاره في جمع الأموال.
ثم قال: كذلك يموت العلم بموت حامليه استناداً إلى الحديث الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
فقبض العلم من صدور العلماء جائز في القدرة، فالله عز وجل قادر على أن يقبض العلم من صدور العلماء، ولكن الذي يحصل إذا أراد الله عز وجل أن يرفع العلم فإنه لا يقبضه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بقبض علماء السنة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.