[فتنة المال على صاحبه وفائدة العلم والتقوى]
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فما زلنا في القصص القرآني، وقد أتممنا بحمد الله في الدرس السابق قصة ذي القرنين، ونتكلم اليوم إن شاء الله عن قصة قارون.
قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٧٦ - ٨٣].
هذه القصة التي سجلها الله عز وجل لنا في كتابه عبرة للمعتبرين، وذكرى للمتقين، فهي قصة فتنة المال الذي ينشغل الناس بجمعه، ويدعو صاحبه إلى البغي والعجب والكبر، فينسى حق الله عز وجل، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:٦ - ٧].
والعبد لا يستغني عن ربه عز وجل طرفة عين، ولكنه بجاهه وماله يظن أنه استغنى، فيطغى عند ذلك على عباد الله.
والقصة تتكرر في كل عصر ومصر، فأكثر أصحاب الأموال همهم أن يكثر المال، فيحملهم ذلك على أن يبخلوا بزكاته، وشدة الحرص على المال وحبهم له يجعلهم يجمعونه من الوجوه المباحة وغير المباحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
فطالب المال كشارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً، ثم هذا الحرص -وهو الحب الشديد والمبالغة في الطلب- يفسد على العبد دينه الذي هو سبب السعادة في الدنيا والآخرة، وأكثر أصحاب الأموال لا يقولون بألسنتهم ما نطق به قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:٧٨]، ولكن بعضهم يعتقد ذلك بقلبه، فيظن أنه بمهارته وذكائه حصل هذا المال الذي عجز عن تحصيله الآخرون، أو يظن أن له منزلة ومكانة عند الله عز وجل؛ ولذلك أعطاه الله عز وجل هذا المال، وكما أن له منزلة في الدنيا سوف تكون له منزلة أيضاً في الآخرة، فهذا ظنه.
والناس ينخدعون بالمظاهر الكاذبة والزيف الظاهر، ويتحاسدون غالباً على الأعراض والزخارف، فليتهم يتحاسدون على العلم النافع والعمل الصالح، فأكثرهم يرى أهل الدنيا يتقلبون في زينتها وزخارفها، فيلبسون الثياب الفاخرة، ويركبون السيارات الفاخرة، وإن لم يقولوا بألسنتهم كما قال قوم قارون: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:٧٩]، ولكنهم يتمنون ذلك بقلوبهم.
أما أهل العلم والإيمان أصحاب الموازين الصحيحة يعلمون أن الدنيا ظل زائل وعرض حائل، وأن الآخرة هي الحيوان، وأن ما عند الله خير، وإنما ينفع المال إذا رزق العبد معه علماً وتقوى لله عز وجل، والعلم والتقوى كذلك ينفعان بغير مال، فيعود الشرف على العلم والتقوى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي في ماله ربه، ويصل فيه ر