[فضل الجلوس في حلقات العلم]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً.
قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم فيمن عنده).
والصحابة لقوة يقينهم وشدة إيمانهم رأوا هذه الأمور الغيبية عياناً في عالم المشاهدة، كما في حديث البراء بن عازب في الصحيحين: (كان رجل يقرأ القرآن فغشيته مثل السحابة فجعلت تدور وتدنو، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه السكينة تنزلت بالقرآن).
فرأى السكينة في صورة سحابة كلما قرأ تدنو وتقترب منه، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هذه السكينة تنزلت بالقرآن).
وكذلك الرحمة رآها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث سلمان الفارسي فقد روى الحاكم في مستدركه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج على جماعة فقال: ما كنتم تقولون؟ فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأردت أن أشارككم فيها) فكانوا في ذكر الله عز وجل وفي طاعته عز وجل، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة وهي تنزل على أصحابه فانضم إليهم حتى يأخذ نصيبه منها.
وفي الصحيحين كذلك من حديث أسيد بن حضير: أنه كان يقرأ في مربده أي: في مربط فرسه، فكلما قرأ جالت فرسه -أي: تحركت فرسه- فإذا سكت سكنت الفرس، قال: فخشيت أن تطأ يحيى -أي: ولده- فنظرت في السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، أو أمثال السرج فعرجت في السماء حتى ما أراها، فلما أصبح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: (هذه الملائكة نزلت تسمع القرآن، ولو قرأت لأصبحت ينظر إليها الناس ما تستر منهم)؛ لأن الملائكة والجن وعذاب القبر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وتلميذه ابن رجب: من الغيب الذي يكشفه الله عز وجل لمن شاء من خلقه.
ولكن الله عز وجل قد يري بعض خلقه الملائكة كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورة دحية الكلبي، ورآه الصحابة رضي الله عنهم، ففي الحديث: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ولا يعرفه منا أحد، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم سأله عن علامات الساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انصرف: علي بالرجل، فطلبوه فلم يجدوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) فالملائكة يريها الله عز وجل من يشاء من عباده، فـ أسيد بن حضير رأى الملائكة وهي تنزل في مثل الظلة، قالوا: وهذا الظلة هي السحابة في الحديث المذكور آنفاً؛ لأن هذه ملائكة الرحمة تنزل معها الرحمة والسكينة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (إن لله ملائكة سيارة يطوفون في الطرقات يلتمسون أهل الذكر، فإذا رأوهم حفوهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف وجدتم عبادي؟ قال: وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك، قال: هل رأوني؟ قالوا: لا يا رب العالمين! قال: كيف لو رأوني؟ قالوا: لو رأوك لكانوا أكثر لك تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً، قال: فماذا يطلبون؟ قالوا: يطلبون الجنة، قال: هل رأوها؟ قالوا: لا يا رب العالمين! قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لو رأوها لكانوا أشد لها طلباً، وأكثر لها سعياً، قال: ومما يتعوذون؟ قالوا: يتعوذون من النار، قال: هل رأوها؟ قالوا: لا يا رب العالمين! قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لو رأوها لكانوا أكثر منها استعاذة، وأشد منها فراراً، قال: أشهدكم يا عبادي! أني قد غفرت لهم، فيقال: فيهم فلان ليس منهم وإنما أتى لحاجة، فيقول عز وجل: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فهذه الملائكة تحب ما يحبه المؤمنون من ذكر الله عز وجل، فهي تبحث عن أهل الذكر، فإذا رأتهم تسابقت في رفع أعمالهم الصالحة إلى الله عز وجل، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع أن رجلاً يصلي خلفه فلما قال: سمع الله لمن حمده، قال: اللهم لك الحمد حمداً طيباً مباركاً فيه، كما تحب ربنا وترضى، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قائل هذه المقالة فأخبر فقال: (والله لقد ابتدرها كذا وكذا ملك أيهم يصعد بها إلى الله عز وجل من حبهم للمؤمنين).
فهم يحبون أن يرفعوا الكلام الطيب إلى الله عز وجل، ويتسابقون في ذلك؛ لأنهم يعلمون أن الله عز وجل يحب أن يتفضل على عباده ويكرمهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (