للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّهُ مَانِعٌ لِلْمُسْتَدِلِّ مِنْ تَرْجِيحِ دَلِيلِهِ عَلَى دَلِيلِ الْمُعْتَرِضِ بِالتَّوْسِعَةِ وَالتَّعَدِّيَةِ إذْ التَّرْجِيحُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَهُنَا دَلِيلٌ وَاحِدٌ اهـ مُوَضَّحًا فِيهِ تَأَمَّلْ.

(وَكَلَامُ الْحَنَفِيَّةِ الْمُعَارَضَةُ) وَأَسْلَفْنَا بَيَانَهَا (نَوْعَانِ) النَّوْعُ الْأَوَّلُ (مُعَارَضَةٌ فِيهَا مُنَاقَضَةٌ) وَهِيَ الْمُقَابَلَةُ بِالتَّعْلِيلِ الْمُبْطِلِ لِتَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ (وَهِيَ الْقَلْبُ) وَتَحْقِيقُهَا أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إبْدَاءُ دَلِيلٍ مُبْتَدَأٍ بِدُونِ التَّعَرُّضِ لِدَلِيلِ الْمُعَلِّلِ وَالْمُنَاقَضَةُ إبْطَالُ دَلِيلِ الْمُعَلِّلِ بِدُونِ إبْدَاءِ دَلِيلٍ مُبْتَدَأٍ وَلَمَّا كَانَ الْقَلْبُ مُرَكَّبًا مِنْ أَحَدِ جُزْأَيْ الْمُعَارَضَةِ وَهُوَ إبْدَاءُ عِلَّةٍ مُبْتَدَأَةٍ وَأَحَدُ جُزْأَيْ الْمُنَاقَضَةِ وَهُوَ إبْطَالُ الدَّلِيلِ سَمَّيْنَاهُ بِاسْمٍ آخَرَ مُنْبِئٍ عَنْهُمَا وَهُوَ مُعَارَضَةٌ فِيهَا مُنَاقَضَةٌ وَلَمْ يُسَمِّ مُنَاقَضَةً فِيهَا مُعَارَضَةٌ لِأَنَّ إبْدَاءَ الْعِلَّةِ بِمُقَابَلَةِ دَلِيلِ الْمُعَلِّلِ سَابِقٌ وَمَقْصُودٌ وَتَخَلُّفَ الْحُكْمِ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ فَكَانَتْ الْمُعَارَضَةُ أَصْلًا (وَيُقَالُ) الْقَلْبُ (لِجَعْلِ الْأَعْلَى أَسْفَلَ) وَالْأَسْفَلَ أَعْلَى كَقَلْبِ الْإِنَاءِ (وَمِنْهُ) أَيْ جَعْلِ الْأَعْلَى أَسْفَلَ وَالْأَسْفَلَ أَعْلَى (جَعْلُ الْمَعْلُولِ عِلَّةً وَقَلْبِهِ) أَيْ جَعْلِ الْعِلَّةِ مَعْلُولًا فَجَعْلُ الْمَعْلُولِ عِلَّةً جَعْلُ الْأَسْفَلِ أَعْلَى وَجَعْلُ الْعِلَّةِ مَعْلُولًا جَعْلُ الْأَعْلَى أَسْفَلَ (فَإِنَّ الْعِلَّةَ أَعْلَى لِلْأَصْلِيَّةِ) أَيْ لِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَالْمَعْلُولُ فَرْعٌ وَهُوَ أَسْفَلُ فَتَبْدِيلُهُمَا بِمَنْزِلَةِ جَعْلِ الْإِنَاءِ مَنْكُوسًا.

(وَإِنَّمَا يُمْكِنُ) هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقَلْبِ (فِي التَّعْلِيلِ بِحُكْمٍ) أَيْ فِيمَا إذَا جَعَلَ الْمُسْتَدِلُّ حُكْمًا فِي الْأَصْلِ عِلَّةً لِحُكْمٍ آخَرَ فِيهِ عَدَّاهُ إلَى الْفَرْعِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَمَا اسْتَقَامَ عِلَّةً اسْتَقَامَ حُكْمًا لَا فِي التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمَحْضِ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ حُكْمًا بِوَجْهٍ وَلَا الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِهِ عِلَّةً لَهُ أَصْلًا (كَالْكُفَّارِ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ) أَيْ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: الْإِسْلَامُ لَيْسَ بِشَرْطِ الْإِحْصَانِ حَتَّى لَوْ زَنَى الذِّمِّيُّ الْحُرُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الَّذِي وَطِئَ امْرَأَةً فِي الْقُبُلِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ يُرْجَمُ لِأَنَّ الْكُفَّارَ جِنْسٌ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ مِائَةً إذَا كَانَ حُرًّا (فَيُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ) أَيْ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارَ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءَ الْوَاطِئِينَ لِامْرَأَةٍ فِي الْقُبُلِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ يُرْجَمُونَ لِأَنَّهُ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ مِائَةً فَجَعَلَ جَلْدَ الْبِكْرِ مِائَةً عِلَّةً لِوُجُوبِ رَجْمِ الثَّيِّبِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَاسَ الْكُفَّارَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْجَامِعِ وَهُوَ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ يَقَعَانِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى (فَيَقُولُ) الْحَنَفِيُّ الْمُعْتَرِضُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ لِأَنَّهُ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ بَلْ (إنَّمَا جُلِدَ بِكْرُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ يُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ) فَلَا يَلْزَمُ رَجْمُ الذِّمِّيِّ الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الثَّيِّبِ الزَّانِي (فَحَيْثُ جَعَلَ) الْحَنَفِيُّ الْمُعْتَرِضُ مَا جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ الْمُسْتَدِلُّ (الْعِلَّةَ) فِي الْأَصْلِ وَهُوَ جَلْدُ الْمِائَةِ (حُكْمًا) فِيهِ وَمَا جَعَلَهُ حُكْمًا فِيهِ وَهُوَ رَجْمُ الثَّيِّبِ الْعِلَّةَ فِيهِ كَانَ هَذَا الْقَلْبُ مُعَارَضَةً صُورَةً لِتَعْلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ بِتَعْلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْحُكْمِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْمُسْتَدِلُّ وَكَانَ الْحُكْمُ عِلَّةً (لَزِمَهَا النَّقْضُ) لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ حُكْمًا فَهِيَ تُوجَدُ وَلَا يُوجَدُ مَعَهَا الْحُكْمُ وَلَيْسَ النَّقْضُ إلَّا وُجُودَ الْمُدَّعِي عِلَّةً مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ (وَهُوَ) أَيْ وَهَذَا (قَوْلُهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ مُعَارَضَةً (فِيهَا مُنَاقَضَةٌ) أَيْ إبْطَالٌ لِتَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ.

هَذَا عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَعَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ فِي هَذَا الْقَلْبِ وَجَعَلُوهُ إبْطَالًا لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ وَفِي شَرْحِ الْبَدِيعِ لِلْهِنْدِيِّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ إبْدَاءُ دَلِيلٍ يُوجِبُ خِلَافَ مَا أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْمُعَلِّلِ فِي مَحَلِّ اسْتِدْلَالِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا هُنَا فِي الْقَلْبِ إذْ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِتَعْلِيلِ الْقَالِبِ لَا يَتَعَرَّضُ لِحُكْمِ الْمُعَلَّلِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ تَعْلِيلُهُ عَلَى فَسَادِ تَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ فَكَانَ إبْطَالًا لَا مُعَارَضَةً وَفِي الْكَشْفِ لَكِنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ اعْتَبَرَ صُورَةَ الْمُعَارَضَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْغَالِبَ عَارَضَ تَعْلِيلَ الْمُعَلِّلِ بِتَعْلِيلٍ يَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ تَعْلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ حُكْمِهِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ثُمَّ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى مَعْنَى الْمُنَاقَضَةِ فِي الْأَصْلِ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِتَعْلِيلِ الْقَالِبِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى لَكِنْ تَعَقَّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُعَيَّنَةِ عَدَمُ الْمَعْلُولِ لِجَوَازِ ثُبُوتِهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ يَلْزَمُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ لِأَنَّ دَلِيلَهُ تَعْلِيلٌ بِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ وَهَذَا عَدَمِيٌّ وَقَدْ عُرِفَ الْخِلَافُ فِيهِ وَأَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ جَوَازِهِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِي الْكَشْفِ وَلَعَمْرِي هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمُمَانَعَةِ مِنْهُ إلَى الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَمْنَعُ نَفْسَ الدَّلِيلِ وَصَلَاحِيَّتَهُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَقَطَعَ بِهِ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ.

(وَالِاحْتِرَاسُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ هَذَا الْقَلْبِ حَتَّى لَا يَتَأَتَّى إيرَادُهُ عَلَى الْمُعَلِّلِ (جَعَلَهُ) أَيْ الْكَلَامَ (اسْتِدْلَالًا) أَيْ لَا يُورَدُ الْحُكْمَانِ بِطَرِيقِ

<<  <  ج: ص:  >  >>