وانتفاء الظلم المجرد لا يدل على الكمال؛ لأن انتفاء الظلم قد يكون لعدم قبول المنفي عنه لهذا الظلم، بمعنى: أنه ليس مما يقبل انتفاء الظلم أو ثبوت الظلم، فإذا نفي الظلم عما لا يقبله فإنه لا يعد مدحًا، فلو قلت: إن الجدار لا يظلم فليس في هذا مدح للجدار، لأن الجدار لا يمكن أن يظلم فلا يكون نفي الظلم عنه مدحًا؛ لأنه أصلًا لا يظلم، وربما يكون نفي العيب بعدم قدرة الشيء على هذا العيب، ولنجعل المثل الظلم، فقد يكون نفي الظلم عن شخص لا لكمال عدله ولكن لعجزه عن الظلم، وحينئذٍ لا يكون ذلك مدحًا بل يكون ذمًا، فصار انتفاء الظلم عما لا يقبل الظلم ليس مدحًا ولا ذمًا، وانتفاء الظلم عما يمكنه الظلم ولكنه عاجز يعتبر ذمًا، ومن ذلك قول الشاعر:
قبيلة لا يغدرون بذمةٍ ... ولا يظلمون الناس حبة خردلِ
فقوله: لا يغدرون بذمة لا يعني أنهم أوفياء بالذمم، وقوله: ولا يظلمون الناس حبة خردل لا يعني أنهم ذوو عدل، بل هذا تحقير لهم بأنهم لا يستطيعون أن يغدروا، ولا يستطيعون أن يظلموا، وقرينة ذلك قوله:"قبيلة" فإنها للتصغير، والتصغير يدل على التحقير.
ومنه قول الحماسي يهجو قومه:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عددٍ ... ليسو من الظلم في شيءٍ وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
وهذا ظاهره المدح، ولكن المراد به الذم، ولهذا قال:
فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرسانًا وركبانًا