وعندي: أن فِي تعبير سُلَيمان للهدهد لَبَاقَة؛ لِأَنَّ مُصارَحَتَه ومقابلته بِقَوْلِهِ:[أمْ كَذَبْتَ] أَشَدُّ وقعًا من قوله: {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، يعني أن قوله:{أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أهونُ مِمَّا لو قَالَ: أم كذبت، فهي فِي الحقيقة من جِهَةٍ أشدّ، وهَذَا بالنظر إِلَى أن قوله:{أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} وصفٌ لازِمٌ، ومن جهة المخاطبةِ أهونُ من قولِه: أمْ كَذَبْتَ، فهَذَا وجهُ الاختلافِ بين قولِه:{أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، وقول المُفَسِّر:[أم كذبتَ]، وكلُّ قولٍ له وجهٌ، لا تعارضَ بينهما.
فالجواب: المُرادُ بالكاذبينَ الَّذِينَ مِن دَأْبِهِمُ الكذِبُ، فكون هَذَا من الكاذبينَ إمَّا أَنَّه من دأبِهِ الكذِب أو فِي جُمْلتِهم، وقد يكذِب مرَّةً واحدةً، وسُلَيْمَان أيضًا ما وَصَفَهُ؛ لِأَنَّهُ قال:{أَصَدَقْتَ} مقابل قوله: {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فلا يُعلم هل يَكُونُ مُتَّصِفًا بِقَوْلِهِ: {أَصَدَقْتَ} أو بِقَوْلِهِ: {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، فما وَصَفَهُ، بل هُوَ مُتَرَدِّدٌ، يُنْظَر، لكِنْ لو ثَبَتَ الكذبُ فهل يَحِقُّ أنْ يُوصَف بأنه من الكاذبينَ؟
الجواب: لا يَحِقّ أنْ يُوصَف بأنه من الكاذبينَ المتَّصِفين بها دائمًا، ولكِن -كما تَقَدَّمَ- هَذَا من بابِ التلطُّف فِي الخِطاب، فكونه من الكاذبينَ هَذَا أشدُّ إذا كَانَ وَصْفه الكَذِب، وكونه لم يُخاطِبْه وقال: أمْ كذبتَ يَكُون أهونَ، مثل قول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - للضيوف:{سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}[الذاريات: ٢٥]، لم يقل: أُنْكِرُكُم، لا أَعْرِفكم، بل قَالَ:{سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} وهَذَا من بابِ التلطُّفِ فِي التعبيرِ.