الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن مدارَ العَمَلِ عَلَى هذينِ الوصفينِ، وهما: الْقُوَّة والأمانة؛ لِقَوْلِهِ:{لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} لِأَنَّ مَن لَيْسَ بقويٍّ لا يُتْقِن العَمَل؛ لضعفِهِ، ومن لَيْسَ بأمينٍ لا يُتْقِن العَمَلَ أيضًا لخيانتِه، فقد يَكُون الْإِنْسَان قويًّا ويستطيعُ أن يعمل هَذَا العَمَل بكلِّ سهولةٍ ولكِنه لَيْسَ بأمينٍ، فلا يثق الْإِنْسَان به، ثُمَّ إن العَمَلَ لو أَنَّهُ أتقنَهُ يبقى الْإِنْسَان شاكًّا يَقُول: يمكن أَنَّهُ يقدِر أن يفعلَ أحسنَ من هَذَا لَكِنَّهُ ما فعلَ لِأَنَّهُ خائنٌ.
وكذلك أيضًا لو كَانَ الْإِنْسَان أمينًا لَكِنَّهُ عاجز فَإِنَّهُ لن يُتْقِن العَمَلَ لعَجْزِهِ، لكِن أيُّهم أشدُّ لومًا؟
الخائنُ أشدُّ، ومَن لَيْسَ بقويٍّ أيضًا عندَه نوعُ خيانٍة؛ لِأَنَّ كونه يدخل فِي العَمَلِ وَهُوَ لَيْسَ بقادرٍ عليه أو لَيْسَ بقويٍّ عليه فهَذَا لَا شَكَّ أيضًا أَنَّهُ خطأ وخيانةٌ، ولهذَا قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذَرٍّ:"إِنَّكَ رَجُل ضَعِيفٌ؛ فَلَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَين، وَلَا تَتَوَلَّيَنَّ مَالَ يتيمٍ"(١).
فالْإِنْسَانُ الضعيفُ لا يجوز أنْ يتدخَّل فِي شيءٍ يَعْرِف أَنَّهُ لا يستطعُ إتقانَه، لا سِيَّما إذا كَانَ يوجد فِي النَّاس مَن يُحْسِنُه، فهَذه تُعْتَبرُ خيانةً لنفسِه ولغيرِه؛ خيانة لنفسه؛ لِأَنَّهُ فِي الحقيقةِ جَشَّمَهَا مرقًى صَعْبًا يريد أن يظهرَ ضَعفهُ أمامَ النَّاسِ، وخيانة لغيره حَيْثُ تَقَبَّلَ أعمالهم وَهُوَ لا يُحْسِنُها {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص: ٢٦].
إِذَا قَالَ قَائِلٌ: إذا اجتمع عندنا أربعةُ أشخاصٍ أحدهم: قويّ أمين، والثاني: قويّ غير أمين، والثَّالث: أمين غير قويّ، والرَّابع: ضعيف خائِنٌ؟
(١) رواه مسلم، الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، حديث رقم (١٨٢٦)، عن أبي ذر - رضي الله عنه -.