للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْفَائِدَة التَّاسِعَةُ: أَنَّ بَيَان الْحَقَّ لا يَلْزَم منه أن يَكُونَ بَيِّنًا لكلِّ أحدٍ، فإن الخفافيشَ تَعْمَى بِضِيَاء النَّهارِ، فلا يَلْزَم من كونِ الرَّسُول عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالْسَّلَامُ عَلَى الْحَقَّ المُبِين أن لا يُعْرِض عنه أحدٌ، ولهَذَا أعقبه بِقَوْلِهِ: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} يعني لا تظنَّ أن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعْرَضوا أَعْرَضوا لأنك عَلَى باطلٍ، بل لعدمِ قابليّة المَحَلِّ، وكما هو معروف أن الشَّيْءَ وإنْ كان تامًّا إذا لم يَجِدْ مَحَلًّا قابلًا لم يَكُنْ له تأثيرٌ، فرجلٌ معه سيفٌ مُصْلَتٌ، وحادّ للغايةِ، وأمامه عمودٌ من حديدٍ صُلْب، وَهُوَ يَنْتَخِي (١) ويَقُولُ (٢):

أنا ابنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا ... ...............

ويَضْرِب هَذَا الصُّلب بالسيف يريد أن يقطعَه، فهل ينقطع هَذَا؟

نَقُول: لا، لِعَدَمِ قابليَّة المَحَلّ، فالْآنَ السَّبَب موجودٌ: سيف صارِم، ورجل شجاعٌ، ورجل يعزِّز نفسه وَيتَشَجَّع وَيصِيح بهَذَا العمودِ منَ الحديدِ، وطبعًا إذا صار بهَذهِ الحالةِ سيَضْرِب بقوّة، ومع ذلك لم يؤثِّر؛ لِأَنَّ المَحَلّ غير قابل.

فما كَانَ عليه الرَّسُول عَلَيْهِ الْصَّلَاةُ وَالْسَّلَامُ منَ الحَقِّ المُبِين، وَهُوَ حقّ مُبين بلَا شَكّ بَيِّن ظاهِر، وعدمُ سماعِ هَؤُلَاءِ له لَيْسَ لِخَلَلٍ فيه، فالسَّبَب تامّ، لكِن الخَلَل فِي المَحَل، فهو غير قابل لهَذَا الحقّ، ولهَذَا ما أحسنَ هَذِهِ الآيَةَ بعدَ الآيَةِ الَّتِي قبلها: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فلا تظنَّ أَنَّك لستَ عَلَى حقٍّ، لكِنَّ هَؤُلَاءِ مَوْتَى.

* * *


(١) أي يفتخر.
(٢) البيت لسحيم بن وثيل الرياحي، انظر الأصمعيات (ص: ١٧).

<<  <   >  >>