للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْفَائِدَة التَّاسِعَةُ: أَنَّهُ لا يجوزُ لأحدٍ أن يحكمَ بغيرِ ما أنزلَ الله، لِقَوْلِهِ: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} لِأَنَّ من جملةِ الأَشْيَاءِ: الحُكْم بين العبادِ، بل هُوَ من أعظم الأَشْيَاءِ، فإذا كَانَ ذلك للهِ فلا يجوزُ لأحدٍ أن يستقلَّ به، ومَن أراد أن يستقلَّ به فقد حاول أن يَكُونَ شَريكًا لله تَعَالَى فِي ذلك، ونزل نفسه منزلةً لا يسْتَحِقّها.

إِذَنْ: أمر التحليل والتحريمِ والإيجابِ إِلَى اللهِ، لِأَنَّ له كُلَّ شيءٍ، وأمر التحسينِ والتقبيحِ الصَّوابُ أنها إِلَى اللهِ؛ لِأَنَّ بعضَ الأَشْيَاءِ لا نعرِف عن حُسنها وقُبحها إِلَّا مِنَ اللهِ، لكِن أيضًا للعقلِ مجالٌ فِي هَذَا، ولذلك {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} ما الَّذِي بعدها {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٤٤]، فدلَّ هَذَا عَلَى أن العقل يحسِّن ويقبِّح؛ فإن هَذَا من القبيح.

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (١)

فالعقلُ يحسِّنُ ويُقَبِّحُ، لَكِنَّهُ لا يُوجِبُ ويحرِّم، فالإيجابُ والتحريمُ إِلَى الله، أَمَّا التحسينُ والتقبيحُ فيُحَسِّن وُيقَبِّح، ولهذَا يحيل الله تَعَالَى أَشْيَاءَ كثيرةً إِلَى العقلِ، فدلَّ ذلك عَلَى أن للعقلِ أن يحسِّن ويقبِّح، ولكِن مِنَ الأَشْيَاء ما لا يعلَم حُسْنَه وقُبْحَه إِلَّا بطريقِ الشرعِ، وهَذَا هُوَ الصَّحيحُ فِي هَذِهِ المسألةِ -مسألة التقبيح والتحسين العقليّ- صار فيها نزاعٌ طويلٌ بين أهل السنّة والجماعةِ وبين أهلِ البدعِ، منهم مَن قَالَ: لا يحسّن ولا يقبِّح، والغريب أن هَذَا هُوَ المشهورُ من مذهب الحنابلةِ، قَالَ الفُتُوحي فِي كتاب (مخُتصَر التحرير فِي أُصول الفقهِ): "العقلُ لا يحَسِّن ولا يُقَبِّح، ولا يُوجِب ولا يحرِّم"، نَقُول: أَمَّا قوله: "لا يوجب ولا يحرِّم" فهَذَا صحيحٌ، وَأَمَّا لا يحسِّن ولا يُقَبِّح فهَذَا لَيْسَ بصحيحٍ، ويُرْوَى عن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ:


(١) مجمع الأمثال (٢/ ٢٣٨).

<<  <   >  >>