فبَيَّنَ أن الَّذِي صدَّها عن عبادةِ اللهِ أَنَّهَا اشتغلتْ من أوَّل أمرها بعبادة غيرِ اللهِ؛ لِأَنَّهَا كانت من قومٍ كَافِرِينَ، فنشأتْ فِي بيئةٍ كافرةٍ واشتغلتْ بعبادةِ المخلوقِ عن عبادةِ الخالقِ، وقد أخبرَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"(١).
فَكَأن هَذِه المَرْأَةَ مَعَ كونها ذكيَّةً وفاهمةً وعندها احترازٌ وتحفُّظٌ، كأنها مَعَ ذلك إِنَّمَا عَدَلَتْ عن عبادةِ اللهِ مَعَ ظُهُورِها ووُضُوحِها لسببِ انشغالها بالباطلِ، والنفس لَا بُدَّ أن تكونَ مشغولةً إمَّا بالحقِّ وَإمَّا بالباطلِ، ولا بد أن تكون كاسبةً، إمَّا كاسبة حرامًا أو حلالًا، إن أخذتْ ما لا حقَّ لها فِيهِ فهي كاسبةٌ حرامًا، وإنْ أخذتْ ما لها حقٌّ فهي كاسبةٌ حلالًا.
قَالَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} يعني بيئتها منذُ نَشَأَتْ وهم كافرونَ باللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالى، يعبدون الشَّمْسَ، فلهَذَا اشتغلتْ بعبادةِ غيرِ الله عن عبادة الله.
وسيأتي إن شاء الله ما فِي هَذِهِ الجملةِ من الفوائدِ.
[من فوائد الآية الكريمة]
الْفَائِدَةُ الْأُوْلَى: أن الْإِنْسَان لَا بُدَّ أن يشغلَ نفسَه، أو لَا بُدَّ أن تكون النفس مشغولة إمَّا بحقٍّ وَإمَّا بباطلٍ، فهَذِهِ المَرْأَة انشغلتْ بالباطلِ عن الحقِّ، وقد قيل من الحِكَم:(إنْ لم تَشْغَلْ نفسَكَ بالحقِّ شَغَلَتْكَ بالباطِلِ). وَقِيلَ أيضًا:(الوقت كالسيفِ، إنْ لم تَقْطَعْهُ قَطَعَكَ)، وهَذَا صحيح. وَفي الحديث الصَّحيح أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كُلُّكُمْ
(١) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، حديث رقم (١٣١٩)؛ ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كُلّ مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، حديث رقم (٢٦٥٨)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -