وقد سبقَ فِي درسِ التَّفسيرِ أنَّ الراجحَ من ذلك: أن هَذِهِ الحروفَ هِجائيَّة، وَأنَّهُ بِمُقْتَضَى كون الْقُرْآن بلسانٍ عربيٍّ يقتضي أنَّهُ لا مَعنى لها، وذكَرنا أنَّ هَذَا قد رُوِيَ عن مجُاهِدٍ (١)، وأنها حروفٌ هجائيَّة ابْتَدَأَ اللهُ بها لَيْسَ لها معنًى، وَعَلَى هَذَا نَجْزِم بأنَّه لا مَعْنَى لها ولكِنْ لها مَغْزى، وهوَ: أنَّ هَذَا الْقُرْآن الَّذِي أَعجزَ هَؤُلَاءِ الفُصَحَاءَ البُلَغَاء، إِنَّمَا هُوَ من هَذِهِ الحروف الهجائيَّة الَّتِي يَكُون مِنْهَا كلامهم، يعني ما أتَى بحروفٍ جديدةٍ؛ لِأنَّهُ لو أتى بحروفٍ جديدةٍ ستقُولُونَ: واللهِ هَذه حروفٌ لا نعرِفها، فأَتى بنفس الحروف الَّتِي هم يَتكلَّمون بها.
ويؤيِّد ذلك أَنَّهُ ما من حروفٍ هجائيَّة إِلَّا ويأتي بعدها ذِكْر الْقُرْآن، اللَّهُمَّ إِلَّا فِي سورتينِ أو شِبههما، عَلَى أن هاتينِ السورتينِ مثل: {الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢)} [العنكبوت: ١، ٢]، {الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ} , فيها ما يدلُّ على القرآنِ، كالإخبار في قولِهِ: {غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: ٢، ٣]، وهَذَا من خصائصِ الوحيِ، وقوله:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا}[العنكبوت: ٢]، فيها أيضًا إخبار عمَّن مضَى فِي قوله:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[العنكبوت: ٣] ... إِلَى آخرِه.
وأمَّا ما زَعَمَه المتأخِّرُون الخالفونَ من أن هَذِهِ الحروفَ تدلّ عَلَى إعجازٍ من نوعِ العددِ والحُسْبَان، حَيْثُ زَعَمُوا أن هَذِهِ الحروف الهجائيَّة يوجد نظيرُها فِي السُّورَة المُفْتَتَحَةِ بها، ويَكُون مجموع هَذَا مُنْقَسِمًا عَلَى تسعةَ عشَرَ، ويزعُمون أنَّ هَذَا أكبر آية عَلَى أن الْقُرْآن كلام اللهِ. ويَحتجُّون لذلكَ بأنَّ أوَّل آيَة نزلتْ -على زَعْمِهم- هي: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأنها مكوَّنة من تسعةَ عشَرَ حرفًا، وأن هَذَا