أثناءها كل ما حواه قاموس الشر من أسماء، وما تخلل صفحاتها سطر من الخير فيما نعلم، ولو على سبيل التجربة، لقد كان نهر فرنسا واسعا عميقا، دائم التدفق، ولكنه كله شر لا خير فيه، وكله نقمة لا نعمة فيه وكله عذاب لا رحمة فيه، فكأن منبعه من الجحيم، بينما كان نهر أبو علي، يطل على الفيحاء كالعملاق، ينشر حولها الخيرات والبركات، على اختلاف أنواعها منذ آلاف السنين، فما تخلف عن آداء وظيفته الإنسانية يوما ولا أمسك عليهم من رحمته، ورغم أن الناس تجاهلوه، وجحدوا فضله، فما قال له أحد أحسنت، ولا جزاك الله خيرا، كما فعلوا مع الليطاني مثلا، ورغم ذلك كله فإنه لم يفقد حلمه، كما فقده حاكم الجزائر من قبل فرنسا، حين رأى أن ثلاثمائة ألف جندي ممن يقاتلون تحت إمرته، ويفتكون بالجزائريين العزل، فتك الوحوش، إنما هم عدد غير كاف، فطلب مددا من باريس على جناح السرعة من ستين ألفا أخرى، ليبطش باسم الحضارة الغربية وباسم حقوق الإنسان بطشته الكبرى، هذا وإذا بلغت الضحايا في طرابلس مئات فقد بلغت في الجزائر عشرات الآلاف، وإذا كانت الكارثة في طرابلس بشعة، لأن السيول قد فاجأت الناس ليلا، فإن سيول الجنود الفرنسية الحاقدة في الجزائر، إنما تفاجئ الناس بالويل والثبور، في كل من الليل والنهار، وإذا كانت سيول أبو علي، مجنونة لأنها لم تفرق بين الكبير والصغير، والصحيح والمريض، فإن جنود الاستعمار الفرنسي في الجزائر لا تقع إلا على المستضعفين فيهم من النساء والولدان، والشيوخ والمرضى، ثم لا يرضيهم أن يريحوا ضحاياهم، بإزهاق أرواحها على طريقة أبو علي السريعة، ولكنهم وقد فقدوا إحساس الإنسان لا يلذ لهم إلا تعذيب الإنسان، وبعد فإن الفرق بين كارثة طرابلس، وكارثة الجزائر شاسع جدا كالفرق بين رحمة نهر أبو علي وبين حقد المستعمرين الفرنسيين أما أبرز الفروق بين الكارثتين فإن طرابلس قد بكاها وواسها جميع الناس، حتى الفرنسيون، وأما الجزائر فلم يبكيها ولم يواسيها إلا الأقل من القليل.