احتل الفرنسيون الجزائر عام ١٨٣٠ فوجدوا أهلها يدينون بالإسلام، ويتكلمون بالعربية، ويقدسونها منذ اثنتي عشر قرنا ونيف، فعز على المستعمرين أن يكون لهذه الأمة مقدسات، أو مقومات حياة، لأنهم بيتوا قتلها وإفناءها، أو مسخها على الأقل، فرأوا أن يصوبوا أول ضربة حازمة إلى اللغة، مظهر كرامة الأمة وعنوان بقائها، فأصدروا قانونا يجعل اللغة الفرنسية في الجزائر هي اللغة الرسمية وحدها، وصيروها لغة المدرسة ابتداء من روضة الأطفال، إلى الصفوف العالية في الجامعة، وجعلوها لغة المعاملة العامة، ابتداء من مختار الحارة حتى تنتهي إلى الحاكم العام، وهذا أمر قد يسهل تصديقه، إنما الذي يعز - ولا شك على القارئ، تصديقه هو أن الفرنسيين الديمقراطيين، قد أصدروا قانونا آخر يعتبرون اللغة العربية بين أهلها لغة أجنبية، وهذا ما حصل بالذات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى اصطناع كل أنواع الإهانات لها، فكل مدرسة أهلية للعربية، إذا سمح بفتحها، إنما تخضع لقانون الصحف الأجنبية، وإذا كتبت أنت إلى صديق لك رسالة في الجزائر، وجعلت العنوان بالعربية إنما ترمى في سلة المهملات ثم إن السماح بفتح المدارس للعربية إنما هو محض افتراض، وإلا فإن فتح مدرسة لتعليم اللغة العربية في الجزائر، كان ولا يزال في نظر الفرنسيين، أخطر من فتح محششة يدار فيها الأفيون والكوكايين وبقية السموم، فلقد شهدت المحاكم في الجزائر مناظر مخجلة يساق فيها معلم العربية في موكب اللصوص والقتلة والمجرمين، لمحاكمتهم على صعيد واحد، وقد تنال رحمة القضاة الفرنسيين، بعض القتلة واللصوص، ولكن ما جربت يوما أن تنال معلم اللغة العربية أبدا، وعلى كل حال، فإنه لا يحسن بي أن أفارق القارئ العربي قبل تطمينه على لغته ومظهر كرامته، فأؤكد أنها اليوم بحمد الله في ألف خير. لأن أهل الجزائر قد داسوا تلك القوانين الحقيرة بأقدامهم، واستهانوا بكل تعذيب يصيبهم في سبيلها. فرحبوا بالسجون والغرامات وبكل مؤلم من أجل لغتهم، فما زالوا كذلك حتى عجزت بربرية الاستعمار، أمام إرادة الجزائريين الجبارة، فسكتت مرغمة، ولو كانت قوانينها لا تزال نظريا قائمة، لكنها غير منفذة.