للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شَكَكْت حَتَّى لَا تَشُكَّ» (١).

وَهَذَا الْقَوْلُ أَصح الْأقوال، وَأَشْبَهُهَا بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ الله رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنِ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ، وَهَذَا مُخْطِئٌ، وَقَدْ أَبَاحَ الله الْأَكْلَ وَالْوَطْءَ حَتَّى يَتبيَّن الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، وَاسْتُحِبَّ تَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَمَنْ فَعَلَ مَا نُدِبَ إلَيْهِ وَأُبِيحَ لَهُ، لَمْ يُفَرِّطْ، فَهَذَا أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنَ النَّاسِي، وَالله أَعْلَمُ.

• المبحث الرابع عشر: رجل أراد أن يجامع، فأكل قبل الجماع، فهل عليه كفارة؟

سُئِلَ شيخُ الإسلامِ عَنْ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوَاقِعَ زَوْجَتَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِالنَّهَارِ، فَأَفْطَرَ بِالْأَكْلِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَ، ثُمَّ جَامَعَ، فَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟ وَمَا عَلَى الَّذِي يُفْطِرُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؟

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِله، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَانِ:

أَحَدُهُمَا: تَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ: كَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ.

وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيِّ.

قلت: «ورجح شيخ الإسلام القضاء والكفارة».

قال: وَذَلِكَ لِأَنَّ هَتْكَ حُرْمَةِ الشَّهْرِ حَاصِلَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ بَلْ هِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَشَدُّ؛ لأنه عَاصٍ بِفِطْرِهِ أَوَّلًا، فَصَارَ عَاصِيًا مَرَّتَيْنِ، فَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ أَوْكَدَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَجِبِ الْكَفَّارَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَصَارَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ لَا يُكَفِّرَ أَحَدٌ، فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يُجَامِعَ فِي رَمَضَانَ إلَّا أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْكُلَ ثُمَّ يُجَامِعُ، بَلْ ذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ، فَيَكُونُ قَبْلَ الْغَدَاءِ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَإِذَا تَغَدَّى هُوَ وَامْرَأَتُهُ ثُمَّ جَامَعَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا شَنِيعٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَرِدُ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ أَنَّهُ كُلَّمَا عَظُمَ الذَّنْبُ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ أَبْلَغَ، وَكُلَّمَا قَوِيَ الشَّبَهُ قَوِيَتْ، وَالْكَفَّارَةُ فِيهَا شَوْبُ الْعِبَادَةِ وَشَوْبُ الْعُقُوبَةِ،


(١) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (٩٠٦٧). وأخرجه عبد الرزاق (٧٣٦٨) عن ابن عيينة، عن الحسن بن عبيد الله، عن مسلم بن صبيح قال: قال رجل لابن عباس: أرأيت إذا شككت في الفجر، وأنا أريد الصيام؟ فقال: كل ما شككت حتى لا تشك.

<<  <   >  >>