للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} يخاطب سُلَيْمَان، وَفِي الحقيقة أن هَذَا الهدهد قويّ، له ضُلُوع قويَّة جدًّا كما يَقُولُونَ، كيف يخاطب سُلَيْمَان وله هَذَا المُلْك العظيم ويقول: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وأيضًا ما قَالَ: بما لم تُحِيطوا به، ما جاء بصيغةِ التعظيمِ.

ونحن الْآنَ بَشَر ونخاطب بعض الأحيان المديرَ أو مَن فوقَه ونَقُول مثلًا: أنتم أو سيادتكم أو سعادتكم أو حضرتكم، ونضع مِيماً أكبر من اللازم، مَعَ أننا مِثْلُهم بَشَرٌ، وكلُّ هَذِهِ فِي الحقيقة من الأُمُور الشَّكْلِيَّة الَّتِي لا تُنْبِئ عن شيءٍ ولا تَنبغي أيضًا، والصحابةُ لا يُخاطِبون الرَّسُول عَلَيهَ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بهَذَا الخطابِ، وَهُوَ أشرفُ عِندَهم من كُلّ بَشَرٍ، وكذلك الخلفاءُ الراشدونَ ما كانوا يُخَاطَبُون بمثلِ هَذَا.

ومن عجبٍ أن بعضَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخاطِبون بمثلِ هَذِهِ الألقابِ تجد قلوبهم تَغِلي عَلَى هَؤُلَاءِ المخاطَبينَ، فيَكُون هَذَا الخطابُ كأنه تهَكُّمٌ بهم، وكان الأَولى أنْ يَتَخَاطَبَ النَّاسُ فيما بينهم خطابًا عاديًّا، فهَذَا الهدهد ما مقامُه مَعَ سُلَيْمَان! جُنْدٌ من جُنْدِهِ الأضعفينَ، ومع ذلك يَقُول بهَذِهِ الصراحة: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وأيضًا هُوَ الَّذِي بدأَ بكلامِه، وبسرعةٍ، لكِن فِي الحقيقة أَنَّهُ فِيهِ نوعٌ من الأدبِ، ما قَالَ مثلًا: أنت جاهلٌ ولا تعرِف وأنا عرفتُ وبحثتُ ووجدتُ شيئًا لا تدري عنه، بل قَالَ: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}، يعني لأجلِ أن يعرفَ سُلَيْمَان قَدْرَه، وَأَنَّهُ لَيْسَ محيطًا بكلِّ شيءٍ، فهَذَا الهدهدُ صار أشدَّ إحاطةً منه، والْإِنْسَان البشر ضعيفٌ فِي كُلّ شيءٍ، حَتَّى ما علِمنا كيف نَقْبُرُ مَوْتَانا إِلَّا مِنَ الغُراب، وهَذَا ممَّا يَدُلّ عَلَى أننا لَسْنَا بشيءٍ فِي الواقعِ.

قوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} يُشْبِهُها قولُ إبراهيمَ لِأَبِيهِ: {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: ٤٣]، ما قَالَ: يا أبتِ إنك جاهلٌ، وهَذَا من اللَّطَافَة فِي الأسلوبِ.

<<  <   >  >>