للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وتقديم الخبر هنا جائز وليس بواجبٍ؛ لأجل الاسْتِفْهامِ؛ لِأَنَّ له الصَّدارَةَ.

وهنا ما قَالُوا: أهَذَا عرشك؟ بلْ قَالُوا: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} يعني هل عَرْشُكِ مثل هَذَا؟ هِيَ أجابت بمثل ما سُئِلَتْ عنه، فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} و (كأنَّ) للتشبيهِ، ولم تقل: إنَّهُ هُوَ، ولم تنفِ السَّبَب لأَنَّهُ مشابِهٌ لعرشها من حَيْثُ الأَصْلُ، ومخالِف له من حَيْثُ الصِّفةُ؛ لِأَنَّهُ غُيِّر، وهَذَا أيضًا من ذكائها أَنَّهَا لمّا وقع فِي نفسها أَنَّهُ عرشها لكِن تغيَّرتْ صِفته قالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} والجوابُ مطابِقٌ للسؤالِ، والمُفَسِّر سَلَكَ فِي هَذَا مَسْلَكًا غريبًا؛ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فَعَرَفَتْه وشَبَّهَتْ عليهم كما شَبَّهُوا عليها، إذْ لم يَقُلْ: أهَذَا عَرْشُكِ؟ ولو قيل: هَذَا لقالتْ: نعمْ]، قوله: شَبَّهَتْ عليهم، أي: لَبَّسَت عليهم، وَلَيْسَ المُرادُ التشبيه، وجوابها مطابِق للسؤالِ ومطابِقٌ لِمُقْتَضَى الحالِ، أَمَّا مطابقته للسؤالِ فلأنه قيل لها: {أَهَكَذَا} يعني أهو مثل هَذَا؟ فَكَانَ الجواب: {كَأَنَّهُ هُوَ}، وَأَمَّا مطابقته لمقتضى الحال فلأن المَرْأَةَ رأتْ أنَّ العَرْش قد غُيِّر، فلم تَجْزِمْ بِنَفْيِهِ ولم تَجْزِمْ بإثباتِه، فإن نُظِر إِلَى أصلِ العَرْش فَهُوَ هو، وإن نُظِرَ إِلَى صِفَتِهِ فليسَ إيَّاه، لذلك كَانَ جوابها جيدًا جدًّا، وَلَيْسَ فِيهِ تشبيه كما قَالَ المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ، ولو قَالُوا: أهَذَا عَرْشُكِ، لا ندري هل تقول: نعم أو تقول: {كَأَنَّهُ هُوَ}؟

وجَزْمُ المُفَسِّر بأنها تقول: نعم، لَيْسَ بصحيحٍ؛ لِأَنَّ المَرْأَة ذكيَّة جدًّا، والْإِنْسَان إذا حصلَ له مثل هَذِهِ الحالِ فإنه لا يَجْزِم بأن ما شاهده هُوَ ما كَانَ يعرفه من قبل، بل إنَّ مُقْتَضَى الحزمِ والتحرُّز أن يقولَ: {كَأَنَّهُ هُو}، هَذَا مُقْتَضَى الحزمِ، لا سيما مَعَ القرائنِ الَّتِي تُبْعِدُ أنْ يَكُونَ إيَّاه كما فِي هَذِهِ القصةِ، فَإِنَّهُ عرش مَحُوط مَحْرُوس من مكانٍ بعيدٍ، فيَبْعُد أن يَمْثُلَ أمامها فِي هَذهِ الحالِ.

المهمُّ الْآنَ أننا نأخذ من جوابها هَذَا ذكاءها من وجهينِ:

<<  <   >  >>