للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: كيف يُقَدِّمُ العزيزَ عَلَى العليمِ، والعلمُ سابقٌ من حَيْثُ الترتيبُ الحكميُّ؛ إذ إنَّهُ يَعْلَم ثُمَّ يَحْكُم ثُمَّ يُنَفِّذ؛ لِأَنَّ العزة تتعلَّق بالتنفيذِ، والتنفيذ بعدَ الحكمِ، والعلم يتعلّق بالحكمِ، والحكمُ سابقٌ عَلَى التنفيذِ، فما هِيَ الحِكْمَةُ فِي أن يقدِّم العزَّة هنا عَلَى العلمِ؟

قُلْنَا: لِأَنَّ المقامَ هنا يَقتضي بَيَان قوّة حُكم اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، وأن هَذَا الحكم لَا بُدَّ أن يَنْفُذ؛ لِكونِه صادرًا عن عزيزٍ، فَكَانَ من المناسِبِ تقديم العزّة عَلَى العلم.

ونظير هَذَا قوله تَعَالَى عن الملائكة لما قالت امرأةُ إبراهيمَ حينما صكّت وَجْهَها وقالت: {عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: ٢٩]، قالوا: {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات: ٣٠]، فقدّموا الحِكمةَ عَلَى العِلمِ، مَعَ أن العلم سابق؛ إذْ لا حكمةَ إِلَّا بعلمٍ، لَكِنَّهُ لمّا كَانَ هَذَا أمرًا خارجًا عنِ العادةِ ومُسْتَغْرَبًا قدَّموا الحِكْمَةَ لِيَتبَيَّنَ لها أَنَّهُ ما خَرَجَ ذلك عنِ العادةِ إِلَّا لحكمةٍ.

قَالَ المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [{الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} فلا يُمَكِّن أحدًا مخالفتَه كما خالفَ الكفّار فِي الدُّنْيا أنبياءَه]، الحكم فِي الدُّنْيا -كما قَالَ المُفَسِّر- يخالَفُ، والمُراد الحكمُ الشرعيّ، أَمَّا الحكمُ الكونيّ فلا يمكن أن يُخَالَف؛ لا فِي الدُّنْيا ولا فِي الآخِرَة، فلا أحدَ يَقدِر أن يخالفَ اللهَ، والحكمُ الشَّرْعِيّ يمكِن مخالفتُه فِي الدُّنْيا كما هُوَ كثير، بل أكثرُ النَّاسِ يُخالِفون الحكمَ الشَّرْعِيّ فِي الدُّنْيا؛ لِأَنَّ بني آدمَ مِنهم تسعمائة وتسعة وتسعون من الألفِ كلهم مخالِفون للحكمِ الشَّرْعِيّ، وواحد فِي الألفِ موافِقٌ للحُكم الشَّرْعِيّ، والدَّليل حديث آدمَ أن الله يناديه يوم القيامةِ فيقول: "يَا آدَمُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مِنْ ذُرِّيَتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. فَيَقُولُ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ

<<  <   >  >>