للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - بلَا شَكّ كَانَ سيّدَ المتوكِّلين، ومع ذلك كَانَ يفعل الأَسْبَاب الَّتِي تحصُلُ بها المنافعُ وتَندَفِع بها المضارُّ؛ كَانَ يأكل ويشرب ويلبس. وَكَانَ أيضًا يتّخذ ما يَقِي مِنَ الضَّرَرِ، حَتَّى إنَّهُ فِي أُحُدٍ ظَاهَرَ بينَ دِرْعَيْهِ (١)، يَعْنِي: لَبِسَ دِرْعَيْهِ، كُلّ ذلكَ تقويةً للأَسْبابِ الَّتِي تندفِعُ بها الأضرارُ.

فإِذَنِ: التوكُّل عَلَى اللهِ لا يَعني ألَّا تأخذَ بأَسْبابِ النجاحِ، بل خُذْ بالأَسْبَابِ مَعَ الاعتمادِ عَلَى اللهِ تَعَالَى والثِّقة به أنْ يَنْفَعَ بهَذَا السَّبَب.

ولمّا حَجَّ قومٌ من أهل اليمنِ وَلَيْسَ معهم زادٌ قَالُوا: نحن نحجّ ونحن المتوكّلون؛ فماذا قيل لهم؟ قيل لهم: أنتمُ المتواكِلون (٢)، ففرقٌ بين التواكُلِ والتوكّل، فالْإنْسَان الَّذِي يريد أنْ تأتيَه الأُمُورُ بدونِ فِعْلِ أَسْبابها هَذَا متواكِل وَلَيْسَ عنده عقلٌ، والبهائم والحشرات وغيرها تفعل الأَسْبَاب، مَعَ أنّ الَّذِي قامَ بِرِزْقِها وتكفّل به هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: ٦]، ومع ذلك تجدها تفعل الأَسْبَاب، بل قَالَ الرَّسُول عَليْهِ الْصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكلِهِ لَرَزَقَكُمْ كمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ؛ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا" (٣)، لم يقلْ: تبقى فِي أوكارها ويأتيها رِزْقُها، قَالَ: تغدو، أي: تَذْهَب فِي الصباحِ فِي الغدوِّ خِماصًا،


(١) رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في لبس الدروع، حديث رقم (٢٥٩٠)؛ والنسائي في الكبرى، كتاب السير، باب التحصين من الناس، حديث رقم (٨٥٨٣)؛ وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب السلاح، حديث رقم (٢٨٠٦)؛ وأحمد (٣/ ٤٤٩) (١٥٧٦٠)، عن السائب بن يزيد - رضي الله عنه -.
(٢) رواه البيهقي في شعب الإيمان (٢/ ٨١) (١٢١٥)، موقوفًا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وأصله في صحيح البخاري، كتاب الحج، باب قول الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، حديث رقم (١٤٥١)، موقوفًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(٣) رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب التوكل على الله، حديث رقم (٢٣٤٤)؛ وابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين؛ وأحمد (١/ ٣٠) (٢٥٥)، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

<<  <   >  >>