وفي قوله:{إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} تثبيتٌ للرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أنْ يَبقى عَلَى ما هُوَ عليه مُعتمِدًا عَلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان إذا عَلِم أَنَّهُ عَلَى حقٍّ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ وتَرْسُخُ قدماهُ، وإذا كَانَ شاكًّا أو مُتَرَدِّدًا فَإِنَّهُ لا يثبتُ، فَأَمَرَه أن يعتمدَ عليه، وَبَيَّنَ له أن ما كَانَ عليه مِنْ هَذَا الدِّينِ فَهُوَ حقٌّ بَيِّنٌ ظاهِرٌ.
فالحاصل الْآنَ: أن اللهَ أمرَ نبيَّه أنْ يَعتمِدَ عَلَى اللهِ، وبَيَّنَ له الحالَ الَّتِي كَانَ عليها، وأن هَذَا الدينَ حقٌّ بَيِّنٌ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى أن إعراضَ مَن أعرضَ عنه لَيْسَ لِقُصُورٍ فِي بَيَان هَذَا الدينِ وظهورهِ، ولكِن لِقُصُورٍ فِي هَؤُلَاءِ المُعْرِضينَ؛ لِأَنَّ الدِّينَ هنا بالنِّسْبَةِ إليهم لم يصادِفْ مَحَلًّا، وكما هُوَ معروفٌ أن الأَمْرَ إذا لم يُصادِفْ مَحَلًّا قابِلًا لم يَثبتْ، حَتَّى إنَّ الْإِنْسَان لَيَقْرَأُ آيَةً عَلَى مريضٍ فيَشْفَى، ويَقْرَؤها عَلَى مريضٍ آخرَ بنفسِ المرضِ فلا يَشفَى؛ لِأَنَّ المريض الأوّل قابِلٌ مؤمنٌ بتأثيرِهَا والثانيَ لَيْسَ مؤمنًا بتأثيرها فلا تَنْفَعه، فلا بدَّ فِي الأُمُورِ من قابليّةٍ، يعني مَحَلًّا يَقْبَلُ هَذَا الشَّيْء، وإذا لم يَقْبَلْ فلا يُمْكِن أن يُلائِمَه.
وهَذَا كما أَنَّهُ فِي الأُمُورِ الشَّرْعِيَّة، كذلك أيضًا فِي الأُمُورِ الْقَدَرِيَّة، فلو أَنَّنَا زَرَعْنَا قلبًا فِي إِنْسَانٍ، ونفرَ منه الجسمُ فلا يبقَى، بل يموتُ، أو زَرَعْنَا كُلْيَة فِي إِنْسَانٍ ونفرَ مِنْهَا الجسمُ، فإنها لا تَبْقَى، فتَتَعَفّن ويموت، فكل شَيْء لَا بُدَّ أن يَكُون المحلُّ قابلًا له، فإنْ لم يقبلْه فلا مكان له.