استفدنا المَعْنى مَعَ الاختصارِ، وعَلَى هَذَا التقريرِ الَّذِي ذكرنا يَكُون {جَعَلْنَا} ليس بمعنى (خَلَقْنَا)، بل بمعنى (صَيَّرنا) تَنصِب مَفْعُولينِ، المَفْعُول الأوَّل (الليل) والمَفْعُول الثاني محذوف تقديرُه: مظلمًا.
قوله:{لِيَسْكُنُوا فِيهِ} اللام هنا للتعليلِ، والسكونُ معناه القرارُ وعدم الحركةِ، ولذلك كَانَ الليلُ مَحَلَّ السكونِ للخلقِ، ولكِنه بإذنِ اللهِ مَحَلّ عَمَل لخلقٍ آخرينَ؛ فالهوامّ والسباع لا تعمل إِلَّا فِي الليل؛ لِأَنَّهَا تَختفي فِي النَّهارِ؛ إمَّا خوفًا من النَّاسِ وَإمَّا رحمةً من الله عَزَّ وَجَلَّ بالخلقِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السباع أو هَذِهِ الهوامّ لو كانت تخرج فِي النَّهار لأتعبت النَّاسَ، ولَكِنَّهَا - والحمد للهِ - لا تظهرُ إِلَّا بالليلِ، فإذا سكنَ النَّاسُ بدأ عَمَلَها بالتناوُب.
وهَذَا من رحمةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بالخلق أن يَكُون هَذَا التبادلُ ليعيشَ النَّاس بسلامٍ، حَتَّى هَذِهِ الحيوانات آمَنُ لها إذا كانت لا تعيش إِلَّا بالليل حَتَّى لا تُعارَض.
فهنا المُراد بالسكونِ الآدميُّون ومَن أشبههم ممَّن سُكُونُهم بالليل، ولهَذَا الْإِنْسَان إذا أرادَ الصحَّة فليكنِ الليلُ سَكَنًا له، ولا سِيَّما أوَّل الليل، فإن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَكْرَهُ الحديثَ بَعْدَ العِشَاءِ (١)، وقد ذَكَرُوا أنّ نومَ الليلِ الساعةُ منه تقابلُ ساعاتٍ من النَّهارِ.
وهَذِهِ الثروة السكونيَّة أضعناها الْآنَ بما لا نفعَ فِيهِ، بل بما فِيهِ ضررٌ، فالْآنَ النَّاس يَعكُفون عَلَى مشاهدةِ التلفزيون إِلَى نصفِ الليلِ تقريبًا، بينما فِي الدول الغربيّة
(١) رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب ما يكره من السمر بعد العشاء، حديث رقم (٥٧٤)؛ ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها وهو التغليس وبيان قدر القراءة فيها، حديث رقم (٦٤٧)، عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -.