كانت الأمة فيه من غليان، وما أبدته من مقاومة للاحتلال، في ثورات عنيفة متوالية جامحة، فكان يتوسل بها إلى مصادرة كل ما تصل إليه يده من علم ومال، حتى أنه قد صادر مرة واحدة، إثر ثورة فاشلة، ما يعادل نحو خمسة ملايين دونم من الأراضي المملوكة للأفراد، وحتى أصبح ممارسة العلم في نظره، نوعا من الخيانة العظمى للدولة الغازية، تعاقب عليه بأقسى العقوبات.
وبعد قرن ونيف من هذه الحملات البربرية، ضد العلم والرزق، كادت الأمة الجزائرية، أن تغرق فعلا في بحر من الجهل والفقر، كما ظهرت إلى الوجود وإلى العمل، تلك الفئة الواعية من العلماء الأحرار، وسموا أنفسهم بالمصلحين، وسميت حركتهم بالإصلاح، وكان مظهر دعوتهم في الأول دينيا محضا. ولكنه دين واسع نظيف، يتناول الحياة من جذورها ويرقى معها حتى يصل إلى أعلى أغصانها، فتوجهوا أول ما توجهوا إلى العقول، يطهرونها مما علق بها من تخريف، ويعوضون عليها ما فقدته من نور، وتوجهوا إلى القلوب، فمسحوا عليها بيد السماء فمست حرارتها الشغاف، فصحت من نومها العميق، ونهضت حالا تطلب الحق، وتطلب الحياة، ولكن معرفتهما بالتفصيل وإدراكهما بالفعل، كان في حاجة إلى وقت طويل، وإلى كفاح مرير، كان لا بد من المرور على الشك، ثم على الظن نم إلى اليقين، ولم تكن الطرق بينها معبدة، ولا المواصلات السريعة متوفرة، إلا ما كان من أصالة تلك القلوب وتلك العقول، وما طبعت عليه من حنين فطري إلى الحق وإلى الحياة.
قام هؤلاء الأفراد القلائل من العلماء الأحرار، يدعون الأمة الجزائرية إلى الرجوع لدينها الصحيح، الذي نجده غضا طريا في الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح، ودعوا الأمة إلى نبذ كل ما خالف ذلك من تخريف، كان من صنع المستعمرين بواسطة الجهلة الدجالين، والمتعالين المأجورين، وقام هؤلاء