واعترض عليه: بأنه قد يحرم الصوم في السفر لمن شق عليه مشقة شديدة لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾، أو أعرض عن قبول الرخصة، أما مَنْ سَلم من ذلك جاز له الصوم. واستدلوا بما ورى البخاري (١٩٤٦)، ومسلم (١١١٤) عن جابر بن عبد الله ﴿قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «مَا هَذَا؟». فَقَالُوا: صَائِمٌ. فَقَالَ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَر». والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. واعترض عليه بأن هذا الرجل شق عليه الصيام حتى أغمي عليه والتف حوله الناس، فهذا الحديث لمثل هذا الرجل وأمثاله، وعند الأصوليين أن بعض أفراد العام لا يخصصه. وقال ابن المنير: هذه القصة تُشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم، وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله، والله أعلم. واستدلوا بما روى البخاري (٢٨٩٠)، ومسلم (١١١٩) عن أنس قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ أَكْثَرُنَا ظِلًّا الَّذِي يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلم يَعْمَلُوا شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ وَامْتَهَنُوا وَعَالَجُوا فَقال النَّبِيُّ ﷺ: «ذَهَبَ المفْطِرُونَ اليوم بِالْأَجْرِ». فمفهوم المخالفة من هذا الحديث أن الصائمين لم يذهبوا بالأجر، فاستدلَّ الظاهرية بهذا الحديث على إبطال صيام المسافر. واعترض عليه: بأن هذا الحديث حجة عليهم؛ لأن النبي ﷺ لم ينكرْ على من صام، ولكن ربما يكون هناك صائمٌ ومفطرٌ، والصائم نائمٌ، والمفطر يسارع في الخيرات، فيضاعف له الأجر لأجل ذلك. واستدلوا بما روى البخاري (١٩٤٤)، ومسلم (١١١٣) عن ابن عباس ﴿: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ، قال أبو عبد الله البخاري: وَالْكَدِيدُ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ. وفى رواية مسلم: وَكَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَتَّبِعُونَ الْأَحْدَثَ فَالْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ. وقد احتج أهل الظاهر بهذه الزيادة، بأن هذا آخر الأمرين عن رسول الله وأن صومه ﷺ منسوخٌ في السفر، وأن هذا الحديث ناسخٌ لأحاديث الصوم في السفر. واعترض عليه: بأن هذه الزيادة مدرجةٌ من قول الزهري وليس من قول الرسول، قال الزُّهْريُّ: وَكَانَ الْفِطْرُ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ. رواه مسلم، ثم إنه ورد عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصومون في السفر ولو نُسخ هذا لما اجتمعت الأمة على ضلالة، عن أبي سعيد ﵁ قال: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ. قال: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ» فَكَانَتْ رُخْصَةً فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا =