فالحكَّام الْآنَ الَّذِينَ يُقَنِّنُونَ للناس قوانينَ وَيقُولُونَ: يَجِب أن تمشوا عليها لِأَنَّهَا أصلحُ لكم مما سبقَ، فهَؤُلَاءِ كفارٌ، حَتَّى وإن لم تَنْزِلْ بهم نازلةٌ واحدةٌ فيحكموا بهَذِهِ القوانين، فهم كفار، مثال ذلك إِنْسَان رئيس دولة شَرَع نظامًا وَيعْرِفُ أن هَذَا النظامَ مخالِف للشرعِ، لكِن يعتقد أَنَّهُ أفضلُ منَ الشرعِ وأصلحُ للخلقِ، وهُوَ ما حَكَمَ به لكِن سَنَّه وتركَ النَّاس يحكمون به، نَقُول: هَذَا كافرٌ كفرًا مخرِجًا عنِ المِلَّة، ويجب الخروجُ عليه، إِلَّا إذا كَانَ متأوِّلًا، فقد يَكُون متأولًا، قد يَقُول: لا، هَذَا لا يخالف الشرعَ؛ وذلك لِأَنَّ عندنا بعض العُلَماء - الله يهدينا وإياهم - يفتحون للحكامِ أبوابًا، حَتَّى إنَّهُم يموِّهون عليهم وَيقُولُونَ: مسائل الدُّنْيا ما للشرع فيها دخل، لِأَنَّ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - يَقُول:"أنتُمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دُنْيَاكُمْ"(١) فِي مسألة التلقيح، فيموِّهون عَلَى الحكامِ، يَقُولُونَ مثلًا: تجوز البنوكُ، لِأَنَّ هَذِهِ من النظام الاقتصاديّ الحديث، لَيْسَ للشرع فِيهِ دخل، وتجوز صناديق التنميات وَلَيْسَ فيها شَيْء؛ لِأَنَّ هَذِهِ من الأُمُور الاقتصادية الَّتِي يُرجَع فيها إِلَى ما يقتضيه العصر، لَيْسَ للشرع فيها نظر، وغالب الحكام قد يجهلونَ هَذَا الأَمْر فيظنون أنَّ هَذَا صحيح، فيلتبس عليهم.
لكِنْ إذا علمنا وفَهَّمْناهم وبَيَّنَّا لهم الْحَقّ وقُلْنَا: إن معنى قوله: "أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دُنْيَاكمْ" أي: فيما يتعلق بالعَمَل والصناعة، فالصانع يعرف كيف يصنع القِدْرَ، لكِن قد لا يعرفه الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم -، والحَرَّاث يعرف كيف يَبْذُرُ، لكِن الرَّسُول قد لا يعلم ذلك، لكِن أحكام شؤون دنيانا الأعلم بها الشرعُ، ففرق بين الأفعالِ وبينَ الأحكامِ،
(١) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - من معايش الدنيا على سبيل الرأي، حديث رقم (٢٣٦٣)، عن عائشة وأنس بن مالك - رضي الله عنهما -.