للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وشُهِرَ سيفُ المحاشةِ (١)؛ بعد أَنْ كان أمرُهم هَيِّنًا، وحدُّهم ليِّنًا، وذاك حتى كان أمرُ الأمة مُجْتَمِعَا، والقلوبُ متآلفة، والأئمةُ عادلةً، والسلطانُ قاهرًا، والحقُّ ظاهرًا.

فانقلبت الأعيانُ، وانعكَسَ الزَّمانُ، وانفردَ كلُّ قوم بِبِدْعَتِهِمْ، وَحُزِّبَ الأحزابُ، وخُولِفَ الكتابُ، واتُّخِذَ أَهْلُ الإلحادِ رؤوسَا أربابًا، وتحوَّلت البدعةُ إلى أهلِ الإتّفاقِ، وتهوَّكَ في العسرةِ العامة وأهل الأسواقِ، ونعقَ إبليسُ بأوليائه نعقةً، فاستجابوا له من كلِّ ناحيةٍ، وأقبلوا نحوَهُ مُسْرِعينَ من كلِّ قَاصِيَةِ؛ فأُلْبِسُوا شِيَعًا، وَمُيِّزُوا قِطَعًا، وشَمَتَتْ بهم أهلُ الأديانِ السَّالِفَةِ، والمذاهب المخالفةِ - فإنَّا لِلَّهِ وإنَّا إليْهِ راجِعُون-.

وما ذاكَ إلَّا عُقُوبَة أَصَابَت القومَ عندَ تركهم أَمْرَ اللهِ، وصَدْفِهِمْ عن الحقِّ، وميْلهم إلى الباطلِ، وإيثارهم أهواءهم، ولله -عَزَّ وَجَلَّ- عقوبات في خَلْقِهِ عند ترْكِ أَمْرِهِ، ومخالفةِ رُسُلُهِ؛ فأُشْعِلَتْ نيرَانُ البدع في الدِّينِ، وصاروا إلى سبيل المخالفين؛ فأصابهم ما أصابَ مَنْ قبلهم من الأمم الماضين، وصرنا في أهل العَصرِ الذين وردت فيهم الأخبارُ، ورُوِيَتْ فيهم الآثارُ (٢).

لكن اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَعَدَ بالتَّمْكِينِ والظُّهُورِ لأَتْبَاعِ رُسُلِهِ؛ المؤمنينَ به، والنَّاصِرِينَ لِدِينِهِ، والصابرين على أذَى النَّاسِ، الذين تمسَّكوا بكتاب ربهم، وعضُّوا على سُنَّةِ نبيّهم - صلى الله عليه وسلم - بالنواجذ.

وهؤلاء هم الذين أَخْبَرَ عنهم النبيُّ الكريمُ - صلوات الله وسلامه عليه - بقوله: "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ على الحقِّ، لا يضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ". وفي رواية: "لا تزالُ طائفةٍ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ ... ".

وأهمّ ما يُمَيِّزُ هذه الطائفة -الموعودة بالنصر والتمكين والظهور- هي أنَّها تتمسَّكُ بالحقّ الذي بُعِثَ به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتتحرَّى سُنَّتَهُ، وتَعْرِضُ عن آراء الرجال، وعلوم الكلامِ، والأفكارِ التي دخَلَتْ على أهل الإسلامِ.

ولشدَّة تمسُّك هذه الطائفة بسنّةِ نبيّها - صلى الله عليه وسلم - عُرِفَتْ - على مرَّ العصور - باسم


(١) أي: شُهِرَ سيفُ الفرقة والإختلاف.
(٢) من مقدمة الإمام أبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري لكتابه العظيم: "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية" (١/ ١٦٣ - ١٦٥).