وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم اليه، ولئن قلتم: إنما حدث بعدهم؛ ما أحدثه الا من اتبع غير سبيلهم وركب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلّموا فبه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مُقَصِّرِ، وما فوقه من محسر، وقد قصرَ قوم دونهم فَجَفُوا، وطمع عنهم أقوام فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
كتبتَ تسأل عن الإقرار بالقدر؛ فعلى الخبير -بإذن الله- وقعتَ؛ ما أعلم ما أحَدْثَ الناسُ من مُحْدَثَةِ، ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرًا ولا أثبتُ أمرًا من الإقرار بالقدر.
لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء؛ بتكلّمون به في كلامهم وفي شعرهم، يُعَزُّون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يَزِدْهُ الإسلام بعدُ الا شدّة، ولقد ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون، فتكلّموا به في حيانه وبعد وفاته، يقينًا وتسليمًا لربهم، وتضعيفًا لأنفسهم؛ أن يكون شيء لم يُحِط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمضِ فيه قَدَرُه، وإنه مع ذلك في مُحْكَم كتابه؛ منه اقتبسوه، ومنه تعلّموه، ولئن قلتم: لم أنزل الله آية كذا؟ ولمَ قال كذا؟ لقد قرأوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك: كله بكتاب وقَدرٍ، وكتبت الشقاوة، وما يُقْدَرُ يكن، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرًا ولا نفعًا، ثم ركبوا بعد ذلك ورهبوا".
أخرجه أبو داود (٤٦١٢) وأبو نعيم في "الحلية" (٥/ ٣٣٨) وابن بطة في "الإبانة" (رقم: ١٦٣) واللالكائي في "شرح أصول الإعتقاد" (رقم: ١٦) وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (رقم: ٧٤) والفريابي في "القدر" (رقم: ٤٤٥) والآجري في "الشريعة" (١/ ٤٤٣ - ٤٤٦/ ٥٧٠، ٥٧١). من طرق صحيحة.
والأثر صححه الشيخ الألباني -رَحِمَهُ اللهُ- في "صحيح سنن أبي داود" بقوله: "صحيح مقطوع". قلت: وهو موصول عند بقية من خرّجه.