للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرَّجُلُ ويُفَسِّرُ الفَرَّاءُ. فقال أبو العَبَّاس: "لم يَعْمَل أَحَدٌ قَبْلَه مِثْلَه، ولا أَحْسَبُ أَنَّ أَحْدًا يَزِيدُ عَلَيْهِ" (١).

قال أبو العَبَّاس: وكان السَّبَبُ في إمْلائِه الحُدُود، أَنَّ جَمَاعَةً من أَصْحَابِ الكِسَائِي صَارُوا إليه وسألوه أنْ يُمِلّ عليهم أبْيَاتَ النَّحْو، فَفَعَلَ ذلك، فلمَّا كان المَجْلِسُ الثَّالِثُ قال بَعْضُهم لبَعْضٍ: إِنْ دَامَ هذا على هذا، عُلِّمَ النَّحْوَ الصِّبْيَانُ، والوَجْهُ أَنْ نَقْعُدَ عنه، فقَعَدُوا، فَغَضِبَ وقال: سَألوني القُعُودَ، فلمَّا قَعَدْتُ تأخَّرُوا، والله لأُمِلَّنَ النَّحْوَ ما اجْتَمَعَ اثْنَان. فأَمَلَّ ذلك سِتّ عَشْرَة سَنَةً. ولم يُرَ في يَدِه كِتَابٌ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً أَمَلَّ كِتَاب "هَلْ ومُذْ" (a) من نُسْخَة (٢).

قال أبو العَبَّاس: كان الفَرَّاءُ يَجْلِسُ للنَّاسِ في مَسْجِدِه إلى جَانِب مَنْزِله، وكان يَنْزِلُ بِإِزَائِهِ الوَاقِدِيُّ. قال: وكان الفَرَّاءُ يَتَفَلسَف في تَأْلِيفَاتِهِ وتَصْنِيفَاتِه حتى يَسْلُكَ فِي أَلْفَاظِهِ كَلامَ الفَلاسِفَة. وكان أَكْثَرُ مُقَامِه ببَغْداد وكان يَجْمَعُ طَوَالَ دَهْرِه، فإذا كان آخِرَ السَّنَة خَرَجَ إلى الكُوفَةِ فأقام بها أَرْبَعِينَ يَوْمًا في أهْلِهِ يُفَرِّقُ فيهم ما جَمَعَه ويَبَرُّهُم.

ولم يُؤْثَر من شِعْرِه غير هذه الأبْيَات، رَوَاها أبو حَنِيفَة الدِّينَوَريّ عن الطُّوَال: [الخفيف]

يا أمَيرًا عَلى جَرِيبٍ مِنَ الأ … رْضِ لَهُ تِسْعَةٌ مِنَ الْحُجَّابِ

جَالِسًا في الخَرَابِ يُحْجَبُ فيه … ما سَمِعْنا بِحَاجِبٍ في خَرَابِ

لَنْ تَرانِي لَكَ العُيُونُ بِبَابٍ … لَيْس مِثْلي يُطِيقُ رَدّ الحِجَابِ (٣)

وتُوفِّي الفَرَّاءُ بطَرِيقِ مَكَّة سَنَة سَبْعٍ ومائتين.


(a) الأصْل: ملازم، وانظر الحَدّ رقم ٦.