فلم يزل ذلك دأبهم، وعين الله ترمقهم، إلى أن اختار لهم ما اختاروه من نقلهم من دار الفناء، إلى دار البقاء، ومن نعيم يزول إلى نعيم لا يزول، فعاشوا محمودين، وانتقلوا مفقودين، إلى روح وريحان وجنات النعيم، فطوبى لهم وحسن مآب.
ومع هذا فما من جزيرة في الأرض ولا إقليم إلا ولنا فيه حجج ودعاة يدعون إلينا، ويدلون علينا، ويأخذون بيعتنا، ويذكرون رجعتنا، وينشرون علمنا، وينذرون بأسنا، ويبشرون بأيامنا، بتصاريف اللغات واختلاف الألسن، وفي كل جزيرة وإقليم رجال منهم يفقهون، وعنهم يأخذون، وهو قول الله عز وجل.
فيأيها الناكث الحانث ما الذي أرداك وصدك؟ أشيء شككت فيه؛ أم أمر استربت به، أم كنت خليا من الحكمة، وخارجاً عن الكلمة، فأزلك وصدك، وعن السبيل ردك؟ إن هي إلا فتنة لكم ومتاع إلى حين.
وأيم لله لقد كان الأعلى لجدك، والأرفع لقدرك، والأفضل لمجدك، والأوسع لوفدك، والأنضر لعودك، والأحسن لعذرك، الكشف عن أحوال سلفك وإن خفيت عليك، والقفو لآثارهم وإن عميت لديك، لتجري على سننهم، وتدخل في زمرهم، وتسلك في مذهبهم، أخذاً بأمورهم في وقتهم، وزيهم في عصرهم، فتكون خلفاً قفا سلفاً بجد وعزم مؤتلف، وأمر غير مختلف.
لكن غلب الران على قلبك، والصدى على لبك، فأزالك عن الهدى وأزاغك عن البصيرة والضيا، وأمالك عن مناهج الأوليا، وكنت من بعدهم كما قال الله عز وجل:" فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ واتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوَنَ غَيَّا ".